مرّ عامٌ على طوفان الأقصى؛ ولكنه مرّ كالدهر على الشعب الفلسطيني بالخصوص، وشعوب المنطقة بالعموم، فهو عام استثنائي بامتياز؛ حيث تبدل الشرق الأوسط بشكل كبير، وسقطت معه خريطة "سايكس بيكو"، وبدت ملامح التغيير الجيوسياسي، والخريطة السياسية ظاهرة بشكل جلي.
لقد كان عامًا – كما يصفه كثيرون – مليئًا بالدماء والخراب والقتل بعد أن قررت حماس مهاجمة إسرائيل، وفتح معركة من الصعب استيعابها أو إيقافها لأسباب كثيرة، وأخذت هذه الحرب أشكالًا متنوعة؛ منها الأخلاقي والسياسي والحضاري أيضًا.
وبعد مرور عام على بدايتها، فتحت جردة حساب من أجل فهمها وقراءة نتائجها، فانقسم الجمْع بين مؤيد يعتبر ما حصل أنه يوم مجيد، وفريق آخر يعتبر أن ما حصل نكسة إنسانية بكل المقاييس، جلبت القتل والدمار والتشريد، ولم تفد القضية الفلسطينية بأي شيء، فلقد انتشرت مؤخرًا تعليقات أهلنا في غزة يشكون معاناتهم الرهيبة التي لا يمكن لأحد منا أن يستوعبها.
أصبحنا أسرى السردية الصهيونية والماكينة الإعلامية الغربية؛ فالإعلام هو أحد أدوات الحرب الحديثة، التي تقوم بتزوير الحقائق وتحريفها وتقليب الرأي العام، حتى إن أصحاب الحق يتحولون إلى مشككين في أحقيتهم في القضية التي يناضلون من أجلها
لا يمكننا أن نشاهد ما يحصل هناك من دون أن نتخيل أنفسنا مكانهم، فرؤية الجثث المكدسة هنا وهناك، وأشلاء الأطفال وبكاء النساء وقهر الرجال، كل ذلك يوجِد فينا شعورًا لا يمكننا وصفه وكبته؛ حيث نشعر بالحزن الشديد والألم القاسي، شعورًا لا يمكن لأحد منا أن يتجاوزه، إذ يتأثر وهو يرى هذه النكسة الإنسانية التي لا مثيل لها في العصر الحديث؛ وهنا يأتي السؤال الأخلاقي: أكانت 7 أكتوبر/ تشرين الأول ضرورة أخلاقية وسياسية، أم كانت وليدة فعل متهور، أم ردة فعل أخلاقية بامتياز، جاءت كنتيجة طبيعية لممارسات الوحشية الإسرائيلية المتراكمة عبر عقود، صنعها العقل الصهيوني بكل أشكاله السياسية: اليمين واليسار؟
والإجابة عن هذا السؤال تحتاج منا أن نحاول التجرد من عواطفنا الجياشة، من أجل فهم طبيعة الحدث، والنتائج المترتبة على هذا الفعل، ويتوجب علينا أيضًا استخدام آلية الدكتور علي الوردي، عالم الاجتماع العراقي، وهي التخلي عن التحيز العقلي لفريق معين، واقتباس شخصية رجل الأسكيمو من أجل التحليل وآلية استنتاج النتائج المنطقية والعلمية.
قبل الدخول في الموضوع مباشرة، علينا التنبه إلى مسألة في غاية الخطورة، هي أننا أصبحنا أسرى السردية الصهيونية والماكينة الإعلامية الغربية؛ فالإعلام هو أحد أدوات الحرب الحديثة، التي تقوم بتزوير الحقائق وتحريفها وتقليب الرأي العام، حتى إن أصحاب الحق يتحوّلون إلى مشككين في أحقيتهم في القضية التي يناضلون من أجلها.
لقد عملت الآلة الدعائية على إقناع الناس أن ما يحصل اليوم في غزة هو بسبب أعمال المقاومين، وليس بسبب من احتل وقتل وشرد، علينا ألا ننسى أن الضفة اليوم تتعرض لوحشية غير مسبوقة، وهي لم تشارك في طوفان الأقصى، وعلى مدى العقود التي مرت شهدنا الممارسات الوحشية دون وجود لطوفان الأقصى، فحيّ الجراح بالأمس القريب خير مثال على ذلك، فلقد تعرض لأبشع أنواع القتل والتنكيل.
- نعود إلى المسألة الجوهرية التي نحاول الإجابة عنها: لماذا 7 أكتوبر يوم مجيد؟
على المستوى الإنساني، علينا أن نعترف دون لبس بأنه يوم عصيب، لا بل قرن أسود، بسبب الجرائم التي ارتكبت في حق الإنسانية والإنسان، وليس في حق أهل غزة فقط.. ولكن اللوم يجب أن يُلقى دائمًا على السبب، وليس على النتيجة، على من قتل واحتل، لا على من قاوم ودافع؛ فالمقاومة والدفاع حق مشروع في كل القوانين الوضعية والإلهية.
أظهر الطوفان مدى التخاذل والضعف الذي تعانيه السلطة الفلسطينية، فحتى السلطة التي أبرمت اتفاقية أوسلو لم تسلم من النقد والهجوم الإسرائيلي؛ حيث اتهمها بالإرهاب؛ ولم تعد سلطة مقبولة لدى إسرائيل
في مسألة الأخلاق
أما على الجانب الأخلاقي، فيعتبر السابع من أكتوبر/ تشرين الأول سلوكًا أخلاقيا طبيعيًا من أجل الدفاع عن المضطهدين داخل أسوار غزة؛ واهم من يعتقد أن غزة قبل الطوفان كانت تعيش في نعيم، مقارنة بالجحيم الذي تعيشه اليوم؛ فالمولود الغزيّ لحظة يبصر النور يرسف في سجن كبير وهو غزة نفسها، سجن يقيد أحلامه وطموحه وطفولته المهددة بالقتل والتفجير في أي دقيقة وكل لحظة من قبل الطيران الإسرائيلي، الخوف هو صفة ملاصقة لأهلها، فهذا الطوفان جاء كفعل أخلاقي حاول إخراج الناس من الخوف والاحتلال المعنوي؛ حيث قال للناس أن ليس هناك شيء مستحيل. فالمقاومة هي حالة أخلاقية يقوم بها المقاوم من أجل رفع الظلم عن نفسه وعن بيئته وعن مجتمعه.
في السياسة الداخلية الفلسطينية
أما على المستوى السياسي الداخلي، فلقد أظهر الطوفان مدى التخاذل والضعف الذي تعانيه السلطة الفلسطينية، فحتى السلطة التي أبرمت اتفاقية أوسلو لم تسلم من النقد والهجوم الإسرائيلي؛ حيث اتهمها بالإرهاب؛ ولم تعد سلطة مقبولة لدى الجانب الإسرائيلي.
لقد ظهرت جليًا الفجوة الكبيرة بين السلطة السياسية، والفرد الفلسطيني الذي يحلم بالتحرر والنضال، إلا أن الأحداث أثبتت أنه لا فرق بين غزيّ وضفِّي في هذه المعركة، فكلاهما في المركب نفسه، لأن الوطن والمصيبة وآلية التحرر، كل ذلك يجمعهما، الأمر الذي وطّد شعور الوطنية بين أهل الضفة وغزة نتيجة الدماء التي أهرقت والتضحيات التي قدمت.
إسرائيل تحولت بعد عدم اهتمامها بكل مناشدات الجمعيات الدولية التي تعنى بحقوق الإنسان، إلى دولة ساقطة أخلاقيًا ومنبوذة، وغير قادرة على الدفاع عن نفسها، لولا التدخل الأميركي غير المحدود
في الداخل الإسرائيلي
لقد حققت هذه العملية نجاحًا باهرًا؛ إذ لم يكن للعالم أن يتوقع تلك النتائج، فلقد أظهر الطوفان أن المخابرات الإسرائيلية ما هي إلا أسطورة مضخمة؛ حيث فشلت فشلًا ذريعًا أمام المقاومة البسيطة التي تفوقت على التكنولوجيا تفوقًا ساحقًا، رغم أن غزة محاصرة من كل الاتجاهات.. لقد أسقطت المقاومة الأساطير الخرافية التي صنعتها الرواية الإسرائيلية عبر عقود.
سقط مفهوم الجيش الذي لا يقهر، وتشوه مفهوم واحة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، والدرع الصاروخية القادرة على المواجهة والتصدي، وتلاشى مفهوم دبابة ميركافا التي لا تقهر؛ حيث تحولت إلى خردة بمجرد أن التحمت من مسافة صفر، مع ذاك الشاب الذي يملك قنابل بدائية بصناعة محلية، حتى غدت تلك الكتلة الحديدية الصلبة كومة حديد ملتهبة تحرق من بداخلها.
ثم ماذا عن الوعي الإسرائيلي، الذي أصيب بنكسة حقيقية، ولن يخرج المجتمع الإسرائيلي من وقع هذه الصدمة لفترة طويلة جدًا؛ إذ إن المواطن الإسرائيلي لم يعد يثق بقدرة جيشه على حماية المجتمع والحدود، فلا تزال المقاومة قادرة على إطلاق الصواريخ ولو بنسبة صغيرة مقارنة بالفترات السابقة، وهذا هو المهم.
إضافة إلى ما سبق، هناك الأرقام الضخمة من الخسائر الاقتصادية، وإفلاس الشركات، والتصنيف السلبي، والهجرة العكسية؛ والأهم من ذلك أن إسرائيل تحولت، بعد عدم اهتمامها بكل مناشدات الجمعيات الدولية التي تعنى بحقوق الإنسان، وبكل نداءات الإنسانية، إلى دولة ساقطة أخلاقيًا ومنبوذة، وغير قادرة على الدفاع عن نفسها، لولا التدخل الأميركي غير المحدود.
خلط طوفان الأقصى كل الأوراق، ونسف المفاوضات الأميركية مع حزب الله في لبنان في قضية الترسيم وملفات أخرى وأدخل إيران وكل المليشيات في أزمة حقيقية
الأوراق الإقليمية
ماذا عن الواقع الإقليمي؟ لقد خلط طوفان الأقصى كل الأوراق، ونسف المفاوضات الأميركية مع حزب الله في لبنان في قضية الترسيم وملفات أخرى، وأدخل إيران وكل المليشيات في أزمة حقيقية. فلقد تعرض حزب الله إلى ضربات قاصمة أدت إلى تهالكه البنيوي، وإلى مقتل أمينه العام السيد حسن نصر الله، وجرّ إيران إلى الحرب التي كانت لا تريدها بعد أن كانت تفاوض الأميركي في مسألة الملف النووي وأموالها المحتجزة.
ومن جهة المستوى العربي، فلقد أوقف طوفان الأقصى التطبيع الذي كان يسير بخطى ثابتة على المستويين السياسي والاجتماعي، وأخّر صفقة القرن، ووضع النخب العربية في مأزق أخلاقي أمام شعوبها؛ بسبب صمتها، وظهرت الفجوة الكبيرة بين النخب المطبعة، والشعوب المحبة والمتعاطفة مع القضية الفلسطينية.
إن ضريبة الحرية غالية على المستويين المعنوي والمادي، خصوصًا في ظل تقاعس عربي؛ حيث أخذ الفلسطيني على عاتقه وحده مسؤولية تحرير فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي
مسألة الوعي العربي
في مسألة الوعي العربي، يعد طوفان الأقصى المحرك الأساسي لعملية إعادة بناء نظام معرفي جديد في العالم العربي والغربي أيضًا؛ فقد تحرّر قسم كبير من الجمهور العربي من سردية ضرورة التطبيع وإقامة السلام مع الكيان الصهيوني، والقسم الغربي تحرّر من سردية المظلومية لليهود.
من كان يحلم يومًا ما أن يرى طلابًا في أهم جامعات العالم وكبرياتها ترفع علم فلسطين، وتواجه بكل جرأة وقوة الشرطة المحلية والسلطات السياسية الغربية؟ من كان يتوقع أن يسمع آراء تهاجم الصهاينة صراحة وبعنف على وسائل الإعلام وفي هوليود؟
لقد أحدثت هذه العملية يقظة في ضمائر الشعوب ووعيها، وأظهرت أيضًا كم كان النظام التعليمي في العالم الغربي يقوم بتدجين شعوبه وتعليبهم ضمن برامج سلطوية، تسعى إلى ممارسة الهيمنة الثقافية التي تهدف إلى حماية إسرائيل – ذلك المشروع الغربي الكبير – وتجميله.
كل هذه الجهود المغرضة المبذولة لسنوات طويلة قد سقطت، علمًا بأن هذا لا يعني أن الرأي العام العالمي أصبح كليًّا مؤيدًا للقضية الفلسطينية، طبعًا لا، فهي مسألة تحتاج إلى تراكم معرفي وسنوات طويلة من الجهد والكفاح، ولكنها أحدثت لفتة صادمة حثت الشعوب على تقصي الحقائق، والخروج من الأسر الإعلامي المضلل والمملوك من القوى الصهيونية التي سعت في كل فصول الاحتلال إلى إظهار أن العرب همجيون ومتخلفون، وأنها هي الدولة الوحيدة الديمقراطية والمتحضرة في المنطقة.
في مسألة الميزان الإنساني والإنسانية، وإن كانت النتائج كارثية، لنا في تحرر الاتحاد السوفياتي من القبضة النازية خير مثال؛ فلقد مات 27 مليون إنسان من أجل تحرير بلادهم، وكذلك في تحرر الجزائر؛ حيث استشهد مليون إنسان جزائري من أجل دحر الاحتلال الفرنسي، لذلك فإن ضريبة الحرية غالية على المستويين المعنوي والمادي، خصوصًا في ظل تقاعس عربي شديد؛ حيث أخذ الفلسطيني على عاتقه وحده مسؤولية تحرير فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي.
ولأن عملية التغيير والتحرر تتطلب الجهد بالوقت والمال والأنفس فالمعركة طويلة، وهي ليست معركة نفوذ، إنما معركة وجود.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.