شعار قسم مدونات

احذر الفجوة!

مدونات - مسلم في حديقة الهايدبارك
على طول شوارعها ومآثرها مظاهر حرية وتسامح إسلاميون بلحى طويلة وسراويل قصيرة يعرضون مصاحف وكتب دعوة على قارعة الشارع بلا أدنى مضايقة (رويترز)

في زيارة للندن عاصمة العواصم، وقلعة الحضارة الغربية، كان لافتا لانتباهي أنها عنوان للتعددية والتنوع. في قلبها "ركن المتحدثين" بحديقة "هايد بارك"، مفتوح للمناظرة وتبادل الآراء والأفكار منذ عام 1872، وعلى طول شوارعها ومآثرها مظاهر حرية وتسامح، إسلاميون بلحى طويلة وسراويل قصيرة يعرضون مصاحف وكتب دعوة على قارعة الشارع بلا أدنى مضايقة، ومجموعة من أعماق آسيا لا يتجاوز أعضاؤها أصابع اليد، تقيم معرضا بلافتة ولائحة ضحايا ومطويات تعرف بقضية أقلية لا تكاد تحصى، بلا أدنى إزعاج أو منع، وغير ذلك كثير مطرد متكرر، بما يؤكد أنه نمط ثابت مستقر.

يا لكمد الناظر لما عند الناس بعين الأسى على ما لا يُسَوَّق من تاريخ وقصص حقيقية وبطولات، تبقى طي الكتب لا وفاء لها حتى في مقررات التعليم!!

كان لافتا أكثر، ذلك الصوت المنبعث من "قطار الأنفاق" كلما توقف بمحطة، ينبهك بهدوء ووضوح حين تفتح الأبواب إلى سلامتك، ويدعوك للانتباه لخطوتك قائلا: "احذر الفجوة"، ولقد تكون فجوة كبيرة بين المركبة والرصيف.

كان لافتا أيضا بكل تأكيد قدرة الإنجليز الفائقة، على استثمار هذه الفجوة، فتجد عبارة "Mind the Gap" مطبوعة على الأقمصة والقبعات وحمالات المفاتيح، معروضة للبيع، فهي أصبحت جزءا من الثقافة البريطانية لدرجة أنها استخدمت في مجموعة من السياقات، وتم استثمارها في أفلام وبرامج تلفزيونية وموسيقى.

يا لكمد الناظر لما عند الناس بعين الأسى على ما لا يُسَوَّق من تاريخ وقصص حقيقية وبطولات، تبقى طي الكتب لا وفاء لها حتى في مقررات التعليم!! في الوقت الذي تتلقف الصناعة أساطير وأكاذيب تجعلها جزءا لا غنى عنه في ثقافات العالم.

وقفت يومها مسحورا، أمام متحف كبير في قلب لندن، لـ"هاري بوتر" الشخصية الخيالية في سلسلة كتب المبدعة جوان رولينغ، وهو متحف يضم جميع شخصيات السحرة ومتاعهم وملابسهم ومغامراتهم، يدخله الآلاف يوميا، ويدر ما لا يحصى.

لقد كان ما رأيت من قبيل السحر ولا شك، خاصة حين مقابلة الواقع بالواقع، يخيل إليك من حِبالهم وعصيهم، وسمتهم وتنظيمهم، وعفويتهم وانبساطهم وتواضعهم، وعقلانيتهم، أنهم غاية ما يوجد وأقصى ما يدرك. كان سحرا ما أشد ما يفتك بمغربي من أقصى الأرض، ولذلك كنت أنبهني من حين لآخر، بهدوء ووضوح: احذر الفجوة.

لم يكن حذري يومها يستند لغير ما أرى من مظاهر "بهيمي" مُقدرة محترمة، ممرات راجلين مزركشة بأعلام الشواذ، وأحياء خاصة بهم ونواد، وشذوذ عن الطبيعة البشرية بظواهر "المستكلبين" من الرجال والنساء. لم أكن أحذر سوى من هذا القدر المتطرف من الحرية، في تلك الرقعة الجغرافية المحددة، ثم جاءت الفاضحة، جاءت غزة.

جدير بالانتباه، أن الفعل Mind"" الذي يترجم في هذه الجملة "احذر" أو "انتبه"، معناه الحرفي "اعقل".

شكلت العقلانية أحد أركان حداثة الغرب التي تعتبر لندن أهم عواصمها، إلى جانب الإنسانية، وهي دعاوى عريضة، تسقط بامتحان تجريبية جون لوك فيلسوف بريطانيا العتيد. فتجربة غزة الفاضحة أثبتت وجود فجوة هائلة بين الدعاوى والواقع بما يجيز لنا استخدام عبارتهم: "احذر الفجوة" في سياق أكثر مجازا لتنبيه الغرب نفسه، والإشارة إلى فضيحة نفاقه ودعوى مرجعيته العقلانية الإنسانية.

ذكر في قصص حرب العبيد الكبرى (73-71 ق.م)، أما في التراث الإنجليزي فقصة "روبن هود" البطل الشعبي المناضل من أجل العدالة، يعيش مع عصابته في غابة شيروود، ويسرق من الأغنياء ليساعد الفقراء.

احذر الفجوة

لا تحتمل الأخلاق أي ذرة من فجوة بين النظر والأثر، ولا تكون أخلاقا إلا إذا كانت فِعلا سجية وطبعا ثابتا، فالتاريخ البشري مر عليه عدة نماذج خالدة ممن اجتازوا هذا الامتحان بجدارة، على رأسهم الأنبياء، ومنهم حكماء وزعماء، واجتاز امتحان نجدة الملهوف ومقاسمة المحتاج، عبيد وصعاليك. ففي ذاكرة الغرب الرومانية تستقر قصة سبارتاكوس، الذي أصبح رمزا لتمرد الرقيق في روما.

فقد ذكر في قصص حرب العبيد الكبرى (73-71 ق.م)، أما في التراث الإنجليزي فقصة "روبن هود" البطل الشعبي المناضل من أجل العدالة، يعيش مع عصابته في غابة شيروود، ويسرق من الأغنياء ليساعد الفقراء.  وفي التاريخ العربي الجاهلي نماذج من صعاليك مثل عروة بن الورد، والذي سمى نفسه عروة الصعاليك، لحمايته الفقراء والمحتاجين وأخذه بيد الضعفاء والمحرومين، وقد كان يجمع الفقراء في حظيرة فيعطيهم مما يغنم. وهو القائل:

أليس عظيما أن تلم ملمة .. وليس علينا في الحقوق معول؟

لقد أَلَمَّت الفاجعة يا عروة وليس لأهل غزة معول، وهدمت المساكن وغاب القوت، ولا مستشفيات ولا مدارس، ولا حجر ولا شجر ولا بشر، ولا من مجيب من مدعي الإنسانية والعقلانية. لم يحذروا الفجوة يا عروة ويا روبن هود.

لم يكن حلف الفضول شعارا ساميا محلقا في فضاء الادعاء، وإن من الخلل الفظيع في فهم الإسلام أن يتناول "مقاصديون" المفهوم فارغا من كل مضمون، واعتباره فضائيا حالما، أو خطبة عصماء على غير أرضية الخطوة والفعالية.

احذر الفجوة

لا تحتمل الأخلاق أي ذرة من فجوة بين الظلم والموقف، في عام 591 م قدم رجل إلى مكة ببضاعة، فاشتراها منه واحد من أشراف العرب هو العاص بن وائل، لكنه منعه حقه، فلجأ الرجل إلى زعماء من قريش مستنجدا، لكنهم لم يُعينوه لمكانة العاص فيهم، فما كان منه إلا أن قام إلى جبل أبي قبيس رافعا صوته بأشعار يعبر فيها عن مظلمته، فكان أن قال الزبير بن عبد المطلب: "ما لهذا مترك"، حتى اجتمع في دار عبد الله بن جدعان التيمي: بنو هاشم، وبنو المطلب، وأَسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب وتيم بن مرة، وتعاقدوا وتحالفوا ليكونن يدا واحدة مع المظلوم على الظالم، حتى يرد إليه حقه، ثم مشوا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه، وأبرموا حلفا  سمي بحلف الفضول. وقد حضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو شاب وفيه قال: "لقد شهدت مع عمومتي حلفا في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت".

لم يكن حلف الفضول شعارا ساميا محلقا في فضاء الادعاء، وإن من الخلل الفظيع في فهم الإسلام أن يتناول "مقاصديون" المفهوم فارغا من كل مضمون، واعتباره فضائيا حالما، أو خطبة عصماء على غير أرضية الخطوة والفعالية. لقد كان موقفا من الظلم، قرر عقلاء أن ليس له مَترَك إلا النفاق والدعوى.

بالقدر الذي كشفت فيه غزة حجم المشترك الإنساني وقوته، ووجود ملايين من أولي بقية شعارهم: ما لهذا مترك،فقد فضحت الفجوة، بل كشفت عورة البشرية وعوارها، وأبانت أن شعوب العالم مختطفون بيد قلة صهيونية الفكر والهوى، تحتل معاقل الحكم والاقتصاد والإعلام.

الآن، لم يعد لسحر هاري بوتر أي فعالية، ولا لسحر رومبو الأميركي المتفوق قاهر المتخلفين وغالبهم، ولا لكذبة توم كروز الساموراي الأخير، لم يعد السحر ينطلي سوى على الساحر. ويبدو أن هايد بارك منذ أن أسسه هنري الثامن سنة 1536 لغاية الصيد، ما يزال حديقة صيد، وليس "ركن المتحدثين" سوى أحد الفخاخ، لـ "صناعة" ودعوى التعددية والانفتاح، كما تصنع حاملات المفاتيح.

إن هذا الموقف في وصف الغرب مبررة جدا بالنظر لمواقفه الحالية إزاء الكارثة الإنسانية بغزة، لقد علمنا جون لوك البريطاني ألا نحكم إلا عن تجربة، ولا نبني معارف سوى بعدها، ويبدو أن مواقف ساسة الغرب ومؤسساته وبعض مفكريه وإعلاميه، إنما تؤكد أن الغرب منافق صياد جشع، باستثناء الملايين من الشعوب الحية التي عبرت عن حساسية إنسانية عالية، وأبلغت العالم بقوة وفعالية رسالتها العظيمة: "احذر الفجوة".

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان