"ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون" (آل عمران: 157)، كم تخبرنا هذه الآية من معان عظيمة، وكيف تقول لنا بالبيان أن من عاش في سبيل الله كان موته في سبيل الله، سواء قتل بيد العدو أو مات موتا بسبب آخر من مرض أو حادث أو غير ذلك، وتقول لنا أن من جعل حياته في سبيل الله فإن الله يقبل نهايته، ويحقق له ما للمجاهد الذي يقضي في سبيل الله.
قبل أيام ودعنا أخا حبيبا، وقائدا فذا، مجاهدا صابرا، وعابدا ضارعا إلى الله عز وجل، موصولا بكتابه، لم تلن له قناة ولم تفتر له عزيمة. قضى على أثر مرض أصابه وهو في ساحة الجهاد والاستعداد لازمه سبعة عشر عاما، ولكنها أقعدت يديه ورجليه عن الحركة فقط، وما أقعدت قلبه الكبير ولا عقله الفذ ولا همته العالية، فما وهن لحظة وما شغلته جراحه وآلامه وشلله التام عن الجهاد بكل صوره، وألوانه.
لقد عاش أخي عمر دغلس حياة الجهاد بكل معانيها منذ نعومة أظفاره، والتحق بالحركة الإسلامية مبكرا، وكان من شبابها المميزين، ثم من قادة العمل الشبابي والطلابي في جامعته وفي قريته "عصيرة الشمالية" بلد القائد الشهيد " محمود أبو هنود" رحمهما الله تعالى وهو قريبه وصديق روحه، عاشا معا وجاهدا معا وأبعدا معا إلى مرج الزهور، وقدر الله تعالى أن يعود محمود لمواصلة الجهاد من داخل فلسطين وأن يتأخر عمر ليواصل الجهاد من خارجها.
قرية عصيرة الشمالية تقع بجوار قريتنا طلوزة، وهما من قرى مدينة نابلس شمال الضفة الغربية، ولشباب عصيرة ودعاتها فضل على طلوزة وعلى شبابها من قبل الانتفاضة الأولى، والتي نسميها أيضا انتفاضة المساجد عام 1987 وبعدها أيضا، إذ كانوا هم المحرك لشباب طلوزة والمفعل لهم في إطار الانتفاضة، وكانوا الأسبق التزاما ومنهم سرت وانطلقت الحركة إلى قريتنا منذ بداية الثمانينات، وكان شيخنا جميعا، الشيخ حسني البوريني، وله فضل علي وعليهما وعلى شباب القريتين تربية وتوجيها، وإن كنت لم أشارك في بداية الانتفاضة إذ كنت خارج فلسطين في الأردن لمتابعة دراستي.
تعرفت على عمر رحمه الله وشباب عصيرة قبل أن أذهب للأردن، وبعد العودة في أجواء الانتفاضة تعرفت أيضا إلى إخوانه نضال وسعد وجمال رحمه الله. الحديث عن هذا البيت المبارك برجاله الأبطال الثلاثة بل وأخواتهم الكريمات المؤمنات ووالدهم رحمه الله تعالى الذي كنت زرته في بيتهم، وكان رجلا صالحا مؤمنا يقصده الناس في الرقى والدعاء لصلاحه، لقد كانت أسرتهم مثال الأسرة المسلمة الصابرة التي ما بخلت على دعوتها وقضيتها بغال أونفيس.
كان أكثر الإخوة خدمة للجميع وأكثرهم تلاوة لكتاب الله وتعلقا بالعبادات وحفاظا على صلاة الجماعة، واشتغل في أبواب الأمن والجهاد والإمداد لإخوانه بأسباب القوة والاستمرار فكان ذا بأس شديد وهمة عالية قل نظيرها
مرج الزهور
توطدت علاقتي بأخي عمر في مرج الزهور، حين كنا في خيمة واحدة، وكنا مع شباب قريتي عصيرة الشمالية وطلوزة، وكان عمر ذا صوت جميل جدا في القرآن والإنشاد وكان يقول الزجل أو بعض الشعر ويلحنه وكنا في الخيمة نحب جميعا الاستماع له. وأذكر أنه كتب قصيدة طويلة في مرج الزهور بعنوان "إسكابا يا دموع العين سكابا.. وصف فيها الأحبة والبلاد والأشواق ولحنها فكان ينشدها ويتأثر بها الشباب كثيرا، وكانوا يرغبون بتكرارها دائما فتثير أشجانهم وأشواقهم.
والحديث عن مرج الزهور ونشاط عمر دغلس هناك يطول كثيرا، فما أظن صخرة لم يحركها أبو جعفر بحثا عن أفعى، إذ كان يصيد الأفاعي ويحضر في كل يوم واحدة أو أكثر ولا يعجزه التقاطها مهما بلغ حجمها ثم بعد تكوين المتحف كان يحضرها للدكتور موسى الأقطم رحمه الله، المختص بالأحياء وكان يأتيه بأنواع غريبة من الحشرات والزواحف يعجب منها وعمل لها متحفا.
قدر الله تعالى أن نكون أنا وأخي عمر ممن كتب عليهم البقاء خارج فلسطين، فزادت أخوتنا ومحبتنا مع الزمن وعرفت الرجل الذي كلما ازددت تعرفا عليه وخلطة له تزداد له حبا وبه تعلقا. سكنا فترة في بيت واحد، وكان أكثر الإخوة خدمة للجميع وأكثرهم تلاوة لكتاب الله وتعلقا بالعبادات وحفاظا على صلاة الجماعة، واشتغل في أبواب الأمن والجهاد والإمداد لإخوانه بأسباب القوة والاستمرار فكان ذا بأس شديد وهمة عالية قل نظيرها وكانت له إنجازات كما يشهد بذلك من عايشوه في هذه الأعمال.
لست أذكر أنه قال يوما لأمر متعب أؤجله أو أعتذر عنه، فكانت هذه الإصابة مقعدة فقط لجسده، أما روحه وعزيمته وإيمانه وتفاعله فما وهن ولا تراجع
الرجل المقاتل
قبل 17 سنة أصيب عمر دغلس وهو على رأس عمله واستعداده الجهادي، وأدى ذلك إلى إصابته بشلل عطل حركته ولم يبق يتحرك بشكل كامل، ولزم جسده الفراش كل هذه المدة لكن بقيت روحه وعزيمته تصول وتجول لا تكل ولا تمل. ولست أذكر أنه قال يوما لأمر متعب أؤجله أو أعتذر عنه، فكانت هذه الإصابة مقعدة فقط لجسده، أما روحه وعزيمته وإيمانه وتفاعله فما وهن ولا تراجع، وأكاد أجزم أن قدرة الجسد دبت في الروح والعزيمة فتضاعفت، وبقي دائم التواصل مع الشباب يوجههم ويعدهم ويحملهم أمانة العمل، وبقي في أبواب كثيرة لا يعمل في مثلها أصحاب الصحة الكاملة، يعمل ويصبر ولا يبالي بالمعوقات أبدا مهما بلغت.
مهما كتبت لن أوفي أخي عمر حقه، لكن حسبه أن الله يعرفه ويعرف أنه كان صابرا رغم الابتلاء، ومجاهدابعقله وفكره رغم انعدام حركته، أبعد عن بلاده التي يحبها قصرا، لكنه ما نسيها يوما، فيا رب أكرمه بما تكرم به عبادك الصابرين الذين وعدتهم بجنتك بدون حساب، وأكرم أهل بيته بكرمك، وأجزل عليهم صبرا وكللهم بالرحمات.
عظم الله أجرنا جميعا بفقدك يا أخي عمر، وإن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا على فراقك لمحزونون ولا نقول إلا ما يرضي ربنا عز وجل إنا لله إنا إليه لراجعون.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.