تنهض الأمة عندما تمتلك حلما؛ يفجر طاقات أبنائها، ويشحذ عزيمتهم، ويزيد قدرتهم على الابداع والابتكار وانتاج الأفكار الجديدة، لكن من يقوم بصياغة الحلم؟
يقوم الأدب بوظيفة مهمة في بناء مستقبل الأمم عندما يصور تاريخها، ويزيد وعي الشعوب بهويتها ووظيفتها الحضارية وبالمبادئ والقيم التي تؤمن بها، وفي ضوء ذلك تتم صياغة الحلم، ويتزايد تأثير الأدباء عندما يعبرون عن هذا الحلم.
ومن الواضح أن الأديب الفلسطيني رأفت حمدونة تنبه لهذا المعني في روايته " لن يموت الحلم " التي كتبها في سجن عسقلان، فقبل أن تصعد روح المجاهد الشهيد إبراهيم إلى ربه، قال إنه رأى في منامه أن الأمة العربية توحدت، وأصبح لها مكانة عالمية قوية، وأن التحالف العربي الإسلامي أصبح من أقوى التحالفات على مستوى العالم، وأن فلسطين تحررت، وأن العرب يتعاملون بعملة واحدة عليها صورة للقدس ومكة.
ذلك هو ملخص حلم إبراهيم الذي سأل رائد: ألا ترى أن حلمي كان رائعا؟
فأجابه: هذا حلم الأمة وحلم أبنائها الشرفاء المخلصين الأوفياء. فصعدت روح إبراهيم إلى بارئها، وخرجت عشرات الألوف من رفح وغزة تودعه.
يواجه الأبطال بسلوكهم الأخلاقي الحضاري خيانة غريب الذي تأمرك، وتنكر لقيم مجتمعه، وفضل متع الحياة الدنيا، واستغلته المخابرات الإسرائيلية للتنسيق معها والإبلاغ عن المقاومين.
صياغة الحلم في ضوء المبادئ
لو استعرضنا القصة لاكتشفنا أن الأديب رأفت حمدونة يرسم الطريق لتحقيق الحلم، فيوضح أن التمسك بالمبادئ والدفاع عنها والتضحية من أجلها هو بداية الطريق لتحرير القدس، فالمبادئ هي التي تعطي للحلم بهاءه وجماله، وتجعل الكفاح من أجله بطولة وفروسية.
والمبادئ ترتبط بالأخلاق والقيم، فالذي يدافع عن المبادئ يجب أن يلتزم بالأخلاق التي ترشد سلوكه، وتجعل الناس ينظرون له بإعجاب، فيؤثر فيهم ويكسب عقولهم وقلوبهم. ويتجلى ذلك في سلوك أبطال المقاومة رائد ورفعت وإبراهيم، وفي سلوك الأسرى داخل السجون.
ويواجه الأبطال بسلوكهم الأخلاقي الحضاري خيانة غريب الذي تأمرك، وتنكر لقيم مجتمعه، وفضل متع الحياة الدنيا، واستغلته المخابرات الإسرائيلية للتنسيق معها والإبلاغ عن المقاومين.
قوة الرموز في بناء الحلم
يستخدم الأدب الرموز التي تحمل الدلالات وتعبر عن المعاني، وتدفع القارئ إلى التفكير وبذل جهده لتفسيرها، لذلك اهتم رأفت حمدونة في هذه القصة ببناء شبكة رموزه، فهو يعبر عن حلم أمته، وحملت الأسماء التي اختارها رموزا تثير الخيال.
وفي بداية القصة تحلق رندة في أرجاء البيت كالعصفور المغرد، بينما تتضح صورة ابن خالتها غريب الأناني الجبان المترف الذي لم يعرف حياة الحرمان لأنه وحيد والديه.
بالرغم من ذلك كانت العائلة تقول إن غريب لرندة، فتشكلت لديه أنانية التملك المفرط للحصول على محبوبته، التي تألقت بجمالها وشبابها بمرور السنين.
أما رائد فعاش حياة قاسية مع أمه وأبيه وأخته نسرين، وزادت المعاناة بعد أن جاءت اتفاقية كامب ديفيد لتقسم بيتهم، فنصفه أصبح في رفح الفلسطينية ونصفه الأخر الذي يعيش فيه أخوه خالد في رفح المصرية، لكن الأسرة تغلبت على ذلك بحفر نفق يشكل التواصل الاجتماعي والإنساني، وباب رزق لخالد وأبيه، وخدمة للوطن أيضا، وهذا يوضح قدرة العقول على ابتكار حلول لأصعب المشكلات، وتحويل التحديات إلى فرص. كما أن المعاناة صقلت رائد بالشهامة والرجولة.
هجم الجنود على رائد، وكسروا يده، وشجوا رأسه، وامتلأت ثيابه بالدم. لذلك قام الطلاب بقذف الجنود الإسرائيليين بالحجارة
الشجاع يستحق الاعجاب والحب
تتصاعد أحداث القصة لتكشف لنا عن سمات رائد التي أهلته للبطولة والمقاومة والقيادة، حيث تجمعه الصداقة برفعت الذي تربي معه في أزقة المخيم، وخطب أخته نسرين التي تدرس في الجامعة، وصديقة رندة في الكلية.
أما إبراهيم الذي يكبره بثلاث سنوات فتعرف عليه رائد أثناء نشاطهم الطلابي في الجامعة، وجمعت بين رائد ورفعت ونسرين ورندة حافلة النقل التي تقلهم من رفح إلى الجامعة في غزة خمسة أيام في الأسبوع، وكانت الحافلة تمر كل يوم على الحاجز العسكري الإسرائيلي.
اشتعلت الانتفاضة التي شارك فيها الشعب الفلسطيني عام 1987، فاستشهد وجرح الآلاف، كانوا مثالا رائعا للثورة والحرية، لذلك استخدم الجنود الإسرائيليون كل وسائل الإرهاب، وحاولوا امتهان كرامة الشباب على الحواجز، بإجبارهم على تنظيف الشوارع من الحجارة واطارات السيارات المحروقة، كما واجبروا الكثيرين على الرقص والتعري، وكان الضرب وتكسير العظام مصير كل من يرفض الأوامر العسكرية.
أمر الجنود الطلاب بالنزول من الحافلة، وأوقفوا رائد ورندة على الحاجز، وأشهر الجندي بندقيته في وجه رائد، وأمره بتقبيل رندة، فرفض برجولة قائلا: إن ديني وأخلاقي تمنعني من تنفيذ طلب .
- قال الجندي: هذا أمر، وإن لم تفعل سنكسر لك عظمك، وسننزل دمك.
- أصر رائد على الرفض قائلا: لن أفعل فهذه شرفي ولحمي ودمي وابنة بلدي وعرضي.
فجأة هجم الجنود على رائد، وكسروا يده، وشجوا رأسه، وامتلأت ثيابه بالدم. لذلك قام الطلاب بقذف الجنود الإسرائيليين بالحجارة، وواجه الجنود الطلاب بإلقاء القنابل المسيلة للدموع، فكانت فرصة لرائد ورندة للهرب وسط غيوم الغاز.
الذي يستحق الحب هو الذي يحمي العرض، ويتمسك بقيم الوطن وأخلاقه ومبادئه، والشرفاء الذين يدافعون عن العرض ويحمونه هم من يحررون الأرض، أما المتأمرك المتغرب، فكل ما يفعله هو أن يجمع المال، ويشبع غرائزه، ويرى أن ذلك هو التقدم.
وتبدأ قصة الحب
أصبح موقف رائد حديث الناس بعظمته واستعلائه، وحملت رندة حبا واراه الخجل والأخلاق لرائد الذي ضحى بنفسه من أجلها، وشعر أبوه بالفخر بموقفه.
بالرغم من أن أم رندة كانت تتطلع لتزويجها لغريب الذي سافر إلى أميركا لدراسة الهندسة، حيث المال والمستقبل المضمون. لكن عندما عاد في إجازة ليخطبها رأت رندة كيف أن غريب أصبح متأمركا يخلط حديثه بكلمات إنجليزية، ومعظم حديثه عن الحريات الشكلية، حيث يرى أن للفتاة حرية اللباس، وللشاب حرية العلاقات معهن، وينعت العرب بالجهل وقلة الوعي، ويري أن أميركا سيدة الكون، وكل محاولة للتحضر لن تنجح دون الدوران في الفلك الأميركي، وأن العلم الأميركي رمز الصناعة والحضارة والتقدم، وأن إسرائيل دولة قائمة ولن تزول، وأن الدماء التي تذهب باسم مقاومة الاحتلال ماهي إلا خسارة على أهلها.
عندما ذهب غريب لخطبة رندة وضع يده على كتفها، فدفعتها، ونظرت له بازدراء: هذه الحركات تعملها مع بنت أميركية هناك وأنا لست من نصيبك.
الذي حمي شرفي
- سأل غريب رندة: وهل تكونين من نصيب رائد؟
- ردت: نعم من نصيب الذي حماني، ودافع عن كرامتي وشرفي.
- فخرج غريبا حانقا وحاقدا على رائد.
وهنا تبدو رموز واضحة، فالذي يستحق الحب هو الذي يحمي العرض، ويتمسك بقيم الوطن وأخلاقه ومبادئه، والشرفاء الذين يدافعون عن العرض ويحمونه هم من يحررون الأرض، أما المتأمرك المتغرب، فكل ما يفعله هو أن يجمع المال، ويشبع غرائزه، ويرى أن ذلك هو التقدم.
يخطب رائد رندة، لكنه يتطلع لتحرير فلسطين، فهذا هو الحلم، لذلك ينضم للمقاومة، ويشترك مع رفعت خطيب أخته نسرين في عدد من العمليات الفدائية منها إلقاء القنابل على الحاجز العسكري، مما أدى إلي زيادة شعوره بعزة النفس والكرامة.
وأثناء الانسحاب رآه زياد الذي سعى مخلصا للانضمام للمقاومة، لكنه أخطأ اختيار الوسيلة حيث طلب من أشرف شقيق رندة أن يتوسط له عند نسيبه رائد، لكن أشرف أخبر غريب الذي أبلغ الضابط كوهين ليسمح له بالسفر لاكمال دراسته في أميركا.
كثيرة هي السجون الإسرائيلية الموزعة من شمال فلسطين حتى جنوبها، وهي قلاع مليئة بالأسرار والشجون. أسوار عالية وأسلاك شائكة وزنازين معتمة وهواء قليل
رائد في السجن
اعتقل جيش الاحتلال الإسرائيلي رائد ورفعت، وبدأت رحلة التعذيب في التحقيق الذي استمر 80 يوما، ولزيادة عذاب رائد تم اعتقال خطيبته رندة، لذلك أصبحت أم رندة تنتظر الإفراج عن ابنتها لفسخ خطوبتها من رائد وتزويجها لغريب.
وتجلى موقف رائد الذي أدرك الضغوط التي تتعرض لها رندة من أمها، فعرض عليها الانفصال، وبالرغم من موقف رندة الشجاع إلا أنها لم تستطع الصمود أمام أمها وعائلتها، فقبلت خطوبة غريب بشرط أن يتم تأجيل الزواج ثلاث سنوات.
أما رائد ورفعت فقد التقيا في السجن بالمئات من المجاهدين، الذين آثروا حرية شعبهم وكرامته وعزته واستقلال وطنهم وتحرير مقدساتهم على سعادتهم وشبابهم، فأشهدوا العالم على أن فلسطين والقدس أعز من أرواحهم وأعمارهم، وأعز من حياتهم وسط أبنائهم وأحبتهم، ومن كل متاع الحياة الدنيا.
وكثيرة هي السجون الإسرائيلية الموزعة من شمال فلسطين حتى جنوبها، وهي قلاع مليئة بالأسرار والشجون. أسوار عالية وأسلاك شائكة وزنازين معتمة وهواء قليل، وشمس محجوبة وجدران أكلت من أعمار آلاف المخلصين والصادقين من المجاهدين بعد أن حرمتهم الحد الأدنى من شروط الحياة.
الإبداع في السجن
قرر رائد ورفعت التفكير في الهرب بحفر نفق أسفل السجن، وبعد العمل لأيام طويلة تمكن رائد ورفعت من الهرب، والوصول إلى غزة في الوقت الذي تمكنت فيه المقاومة بقيادة إبراهيم من كشف شبكة العملاء التي يقودها غريب.
واستطاعت المقاومة خطف غريب واجباره على الاعتراف في تسجيل مصور، وأجبروه على تطليق رندة، ونسف اجتماع لشبكة العملاء مع الضابط الاسرائيلي كوهين.
هكذا أنقذت المقاومة رندة التي عادت لحبيبها رائد الذي واصل دوره في المقاومة بدرجة عالية من الإبداع، وليعبر مع الأبطال عن حلم الأمة في تحرير فلسطين، حيث بدأت مرحلة جديدة في تاريخ المقاومة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.