هناك الكثير من الحقائق والأسرار والقصص عن هزيمة عام 1967، حرصت الكثير من القوى الاستعمارية والصهيونية والاستبدادية على إخفائها، لأن الكشف عنها يمكن أن يفجر وعي الأمة، ويزيد قدرتها على مراجعة نفسها، ونقد ذاتها.
كما أن دولة الاحتلال الإسرائيلي تحرص على إخفاء الحقائق لتظل تحتفظ لنفسها بصورة النصر الزائفة؛ التي حصلت عليها عام 1967، والتي خدعت بها العالم، وزيفت بها وعي الجماهير، وشوهت بها صورة الشخصية العربية.
الجريمة الإسرائيلية ضد الأسرى المصريين، من أهم ما تحاول دولة الاحتلال أن تخفيه، حيث تشكل لها عارا تاريخيا، وتوضح عداءها للحضارة والقيم الإنسانية، فالإسرائيلي الذي صور نفسه للعالم بأنه تعرض للظلم والاضطهاد على يد هتلر، ونجح في الحصول على تعاطف الجماهير الغربية وتبرعاتها؛ ارتكب جريمة ضد الأسرى المصريين، حيث كان الجنود الإسرائيليون يتسلون بإطلاق الرصاص على الأسرى، وإهانتهم وتعذيبهم ونزع أعضائهم، للحصول على المتعة واللذة برؤية دمائهم تتدفق، كما شهد بذلك قادة إسرائيليون في مذكراتهم.
عميد أدباء الأقاليم في مصر، حيث كان يقيم في مدينة المنصورة في دلتا مصر، وهناك في أقاليم مصر الكثير من الأدباء الذين لا يجدون فرصا لنشر انتاجهم الأدبي، فكل الطرق مسدودة ولا تفتح؛ إلا لمن ينالوا رضاء أجهزة الأمن
السلطة المصرية تخفي الحقيقة، لماذا؟!
كانت ذاكرتي تحتفظ بالكثير من القصص، عن جريمة قتل جيش الاحتلال الإسرائيلي للأسرى المصريين سمعتها من شيوخ العرب؛ الذين قاموا بدور عظيم في عملية إنقاذ آلاف الجنود المصريين الذين تاهوا في صحراء سيناء. وفي صيف عام 1977 عندما دخلت كلية الإعلام، وقبل بداية العام الدراسي، أتيحت لي فرصة حضور لقاء مع عدد من المسؤولين المصريين في معسكر للشباب بنادي الجزيرة، وفي كلمتي قلت: إن هناك الكثير من القصص التي يجب أن يعرفها شعب مصر عن جريمة جيش الاحتلال الإسرائيلي عام 1967، وأن هناك الكثير من شهود العيان مازالوا أحياء، لذلك يجب أن يقوم الصحفيون والأدباء المصريون بزيارة سيناء، والاستماع لهذه الشهادات ونشرها، فالكشف عن الحقائق وتوثيق الشهادات وكتابة القصص عن الهزيمة، من حق شعب مصر لأنها تزيد وعيه، ولأنها سلاح نستخدمه ضد العدو الإسرائيلي، ويمكن أن تشكل وثيقة اتهام لإسرائيل في المحاكم الدولية، وإقامة محاكمة تاريخية لإدانة الجريمة الإسرائيلية.
فجأة، تبارى الخطباء في الهجوم علي، واتهامي بأنني شيوعي، وأنني أبحث عن الأضواء والشهرة، ومطالبة الجميع بالتبرؤ مني، وقاد الحملة ضدي محام له علاقة وثيقة بالأجهزة الأمنية.
الحرص على إخفاء الأسرار!
بعد اللقاء وجدت رجلين في انتظاري، كان أحدهما شخصية مهمة تجاوز الستين من عمره، وحرص على أن يتحدث معي كأب ينصح ابنه بالمحافظة على مستقبله، والتركيز في دراسته، والابتعاد عن عالم السياسة.
تأثرت بصدق الرجل وبأسلوبه الأبوي، فسألته بأدب: ما الخطأ فيما قلته؟ وما سبب هذا الهجوم علي، فأنا أعبر عن موقف وطني، ولم أقل ما يشكل إساءة لأحد، ولم أهاجم سوى إسرائيل العدو الأبدي لبلدي، لكن الرجل قال: أنت شاب صغير السن، ويجب أن تحرص على مستقبلك. ثم سألني لماذا دخلت كلية الإعلام؟ لم يترك لي فرصة للإجابة، فأضاف إن هذا الطريق صعب، وأنصحك بالابتعاد عنه، فإن كنت تقول هذا الكلام قبل أن تدخل الكلية، فماذا يمكن أن تفعل بعد ذلك، وما المصائب التي يمكن تجلبها لنفسك ولأهلك، أنصحك بأن تحول إلى كلية التربية!
كان الموقف غريبا، وزاده غرابة أن المسؤول عن معسكر الشباب دخل فجأة ليبلغني بقرار طردي من المعسكر، وأنني يجب أن أغادر الآن، فليس لي مكان بين الشباب.
فؤاد حجازي ليس غريبا عن السجون؛ حيث دخل سجون مصر مثل الواحات والقناطر والقلعة التي قضي فيها ثلاث سنوات، منذ أن تم فصله من كلية الحقوق عام 1959 بسبب نشاطه السياسي
فؤاد حجازي: تجربة إنسانية
ثارت في خيالي كل تلك الذكريات، وأنا أقرأ رواية فؤاد حجازي "الأسرى يقيمون المتاريس"، لكن قبل أن ندخل إلى العالم الذي صوره في روايته، ونستعرض تجربته الذاتية التي تكشف الكثير من الحقائق، يمكن أن نتوقف عند جانب من سيرته الشخصية، فهو عميد أدباء الأقاليم في مصر، حيث كان يقيم في مدينة المنصورة في دلتا مصر، وهناك في أقاليم مصر الكثير من الأدباء الذين لا يجدون فرصا لنشر انتاجهم الأدبي، فكل الطرق مسدودة ولا تفتح؛ إلا لمن ينالوا رضاء أجهزة الأمن، وإرضاء تلك الأجهزة يتم بأساليب يرفضها كل حر يحرص على ضميره العلمي والأدبي.
وفؤاد حجازي ليس غريبا عن السجون؛ حيث دخل سجون مصر مثل الواحات والقناطر والقلعة التي قضي فيها ثلاث سنوات، منذ أن تم فصله من كلية الحقوق عام 1959 بسبب نشاطه السياسي، وتعرض للتعذيب في سجن القناطر، لكن تم بعد ذلك تجنيده في الجيش المصري.
إنهم يقتلون الأسرى!
حتى نتفاعل مع الرواية نشير إلى أن فؤاد حجازي أصدر كتابا بعنوان: "إنهم يقتلون الأسرى"، وهو ملف يتضمن عددا من الشهادات أرسله إلى اتحاد الأدباء العرب بدمشق، طالب فيه بإقامة محكمة رأي يقدم إليها كل قادة جيش الاحتلال الإسرائيلي، الذين قاموا بدور في قتل الأسرى المصريين خلال حروب 1956 و1967 و1973.
كما دعا فؤاد حجازي في هذا الكتاب الدول العربية إلى تعديل قوانينها الوطنية، لتتماشي مع أحكام اتفاقية روما لتجريم جرائم الحرب والاعتداء على المواطنين، وارتكاب جرائم ضد الانسانية.
لكن لماذا اختار فؤاد حجازي اتحاد الأدباء العرب لتقديم دعواه؟ أنا أرى أن الأدباء العرب يجب أن يقوموا بدورهم في هذه المرحلة المهمة من تاريخ الأمة، وأن يقودوا كفاحها من أجل الحرية، وأن يصوروا معاناة الشعوب، ويعبروا عن أحزانها وآلامها، وحلمها.
لذلك أرى أنه يجب تطوير الفكرة بالدعوة لإنشاء اتحاد جديد للأدباء العرب، وأن يقوم هذا الاتحاد بتشجيع الأدباء على تصوير التجارب الإنسانية، وكتابة القصص عن تاريخ الأمة التي تتضمن شهادات حقيقية عن الظلم والاضطهاد، الذى تعرض له المقاتلون من أجل الحرية، وأن يقوم الاتحاد بمحاكمات تاريخية لقادة جيش الاحتلال الإسرائيلي، الذين ارتكبوا الجرائم ضد الأسرى المصريين والفلسطينيين، فأدباء الأمة يمكن أن يقوموا بدور مهم في قيادة كفاح أمتهم.
تضمنت الشهادات التي قدمها فؤاد حجازي في كتابه كيف قام جيش الاحتلال بتعذيب الأسرى المصريين في الميدان، إجبارهم على حفر قبورهم، وإكراه زملائهم على ردم هذه القبور، ودهسهم بالدبابات وإطلاق رصاص محرم دوليا عليهم.
يوضح فؤاد حجازي كيف كان جنود الاحتلال الإسرائيلي يبتكرون أساليب جديدة لإلحاق الضرر الجسدي والنفسي بالأسرى، من أهمها أنهم تركوا جروحهم دون علاج حتى انتشر فيها الصديد وتعفنت، وفاحت الروائح الكريهة، ولم يعد الأسير الجريح يطيق نفسه.
الأسرى يقيمون المتاريس
في روايته "الأسرى يقيمون المتاريس" يصف لنا فؤاد حجازي تجربته الذاتية بعد أن تم استدعاؤه للاحتياط، وارساله إلى سيناء مع مجموعة من الجنود، تم القبض على أحدهم دون السماح له بإبلاغ أهله أو توديعهم.
لم يكن فؤاد حجازي وزملاؤه يتوقعون حربا، ولم يتم اعدادهم للحرب، ولكنهم وجدوا القنابل تنهال عليهم، دون أن يتمكنوا من إطلاق رصاصة واحدة، واستشهد كل أفراد كتيبته ما عدا أربعة كان هو أحدهم، حيث أصيب بجرح غائر في كتفه، وشظية في رقبته ما زالت في جسده حتى الآن، وتم أسره يوم 6 يونيو 1967.
لذلك يصف لنا تجربته الذاتية في سجن عتليت الإسرائيلي التي استمرت ثمانية أشهر. بدأت برحلة الأهوال والآلام في الطريق إلى معسكر الأسرى، حيث كان أهم ما سجله فيها أن الجنود الإسرائيليين يتعمدون إهانة الأسرى وتعذيبهم نفسيا، وتعريضهم للجوع والعطش، وإلحاق الأذى بأجسادهم وجروحهم.
ابتكار وسائل جديدة للتعذيب!
يوضح فؤاد حجازي كيف كان جنود الاحتلال الإسرائيلي يبتكرون أساليب جديدة لإلحاق الضرر الجسدي والنفسي بالأسرى، من أهمها أنهم تركوا جروحهم دون علاج حتى انتشر فيها الصديد وتعفنت، وفاحت الروائح الكريهة، ولم يعد الأسير الجريح يطيق نفسه.
كما تعمد حراس السجن قطع المياه وعدم السماح بها إلا لفترات قليلة، ومنع المواد التي تستخدم في النظافة مثل الصابون، مما أدي إلى انتشار القمل، وهي حشرات تنهش في أجساد المعتقلين، وتزيد عذابهم النفسي والجسدي.
كما تعمد الحراس تعذيب الأسرى بإطلاق الشائعات عن قرب ترحيلهم إلى مصر، وهي وسيلة اقتبسها الطغاة من الاحتلال الإسرائيلي بهدف تعذيب الأسرى نفسيا في كل السجون.
يكشف فؤاد حجازي عن جريمة أخرى ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي، حيث جاء إلى المعسكر مجموعة جديدة من الأسرى قالوا: إن جيش الاحتلال الإسرائيلي كان يستخدمهم في الخدمة، مثل تحميل العتاد في الشاحنات، والقيام بأعمال الحفر والشحن والتفريغ.
الجهاد في أشد حالات الضعف
في مواجهة كل هذه الوسائل التي استخدمها جنود الاحتلال الإسرائيلي صمد الأسرى، واستخدموا عقولهم في إنتاج أفكار جديدة لتحمل عذاب السجن وقسوته، لكنهم لم يتحملوا إهانة كرامتهم الوطنية، فقرروا الإضراب عن الطعام، وهو جهاد في أشد حالات الضعف.
كان الطعام قليلا ورديئا ولا يغني من جوع؛ لذلك تحول رفض هذا الطعام إلى وسيلة مقاومة إنسانية، فالحياة في أغلال الأسر لا يريد أحد التمسك بها.
واجه جيش الاحتلال الأسرى بالمزيد من الاضطهاد والقهر، لكن الأسرى أبدعوا في ابتكار أساليب للمقاومة، فأقاموا المتاريس، وهاجموا الحراس، فاضطر قادة الاحتلال إلى التهدئة.
كما قام الأسرى بابتكار وسائل لدفع جنود الاحتلال للشعور بالغيظ والإهانة، حيث أمسكوا كلبا، ووضعوا على عينه عصابة، وكتبوا عليه ديان.
هذا يوضح البطولة الجماعية للأسرى، وأهمية إنتاج أفكار جديدة للمقاومة والجهاد حتى في أشد حالات الضعف، وهذه البطولة الجماعية ترفع معنويات الفرد، وتؤدي إلى تحسين حالته النفسية، وزيادة قدرته على الصمود والصبر والمحافظة على الحياة رغم الجراح والألم حتي مرت المحنة.
يكشف فؤاد حجازي عن جريمة أخرى ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي، حيث جاء إلى المعسكر مجموعة جديدة من الأسرى قالوا: إن جيش الاحتلال الإسرائيلي كان يستخدمهم في الخدمة، مثل تحميل العتاد في الشاحنات، والقيام بأعمال الحفر والشحن والتفريغ.
فهل يكشف ما كتبه فؤاد حجازي بعض الحقائق التي تريد أجهزة الأمن المصرية التعتيم عليها، ومنع الكشف عنها؟ والتي من أهمها أن الجيش المصري تعرض لعدوان إسرائيلي لم يتوقعه، ولم يتم اعداده للحرب، وأن الأوامر صدرت للجيش بالانسحاب دون خطة؟ فقام الطيارون الإسرائيليون باشباع رغباتهم في التسلية والمتعة باصطياد الأسرى، في تعذيب الأسرى وإهانة الكرامة الوطنية؟ وهل كنت أستحق الطرد من معسكر الشباب لأنني أشرت إلى الجريمة التي يجب أن يتم محاكمة الكثير من الذين شاركوا فيها؟ وهل أصبح من الضروري أن نفتح الملف بكل شجاعة؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.