تُبرز هذه التدوينة بعضا من ملامح الإصلاح الاجتماعي والسياسي لدى الإمام محمد بن علي السنوسي (1787-1859)، أحد زعماء الإصلاح في العالم الإسلامي وسليل الدوحة النبوية الشريفة ومؤسس الدعوة السنوسية، والتي حملت لواء الدعوة إلى الإسلام في كثير من ربوع أفريقيا وكانت سببا في جمع شمل القبائل الليبية على وجه التحديد وتحقيق السلم بينها وتوحيد كلمتها.
منتقلا من مكة إلى برقة شرق ليبيا، انطلق الإمام محمد بن علي السنوسي بمشروعه الإصلاحي مستندا إلى فهم مستنير للغايات والمقاصد والأهداف الكلية للدين الحنيف، ومتسلحا بوعي ودراية دقيقة بما يجري حوله في زمانه. كان لدى الإمام المؤسس غايتان أساسيتان؛ الأولى هي نقل أحكام الكتاب والسنة وتعزيز منظومة الأخلاق الإسلامية، والغاية الأخرى هي الاهتمام بشؤون الناس ومعاشهم وأحوالهم الدنيوية.
في النواحي السياسية والاجتماعية، كان للسنوسي الكبير مشروع إصلاحي واقعي، يقوم على عدة ركائز أهمها هو بناء السلام، وبناء هوية حضارية جامعة للمجتمع، والتي تعد غايات أصيلة في مشروع الإمام السنوسي والحركة السنوسية من بعده.
على المستوى الديني حققت الحركة السنوسية حراكا فكريا وإرثا صوفيا لا تزال أثاره حاضرة في ليبيا وفي كثير من ربوع أفريقيا وآسيا إلى اليوم. فقد سعى السنوسي الكبير إلى وضع أسس فكرية ومبادئ سلوكية سارت عليها الحركة السنوسية من بعده، ولعل أهمها الربانية المتمثلة في الطريقة الصوفية السائرة على منهج الكتاب والسنة، إذ لا يختلف إثنان على الدور التربوي الكبير للحركة السنوسية وتأثيرها الإيجابي على حاضنتها الاجتماعية وتربيتها على حب الجهاد وصد موجات التغريب ومقاومة النفوذ الأجنبي وحمل راية الدعوة للإسلام عبر الصحاري والفلوات إلى شعوب القارة الأفريقية على وجه الخصوص.
في النواحي السياسية والاجتماعية، كان للسنوسي الكبير مشروع إصلاحي واقعي، يقوم على عدة ركائز أهمها هو بناء السلام، وبناء هوية حضارية جامعة للمجتمع، والتي تعد غايات أصيلة في مشروع الإمام السنوسي والحركة السنوسية من بعده. فعند قدوم الإمام محمد بن علي السنوسي إلى برقة، كان المجتمع حينها بدائيا بسيطا محدود العدد يفتقر إلى وجود نظام اجتماعي متماسك، ويغلب على مكوناته القبلية والعشائرية النزاع وعدم الثقة. فأولى الإمام السنوسي حينها اهتماما كبيرا بالتعليم الديني والإصلاح الاجتماعي، وبذل الوسع في تنظيم المجتمع القبلي المعقد وتحقيق الصلح بين مكوناته وإنهاء الخلافات بينها.
النزاعات الداخلية في هذا الصنف من المجتمعات القبلية قد تشكل فرصة لمن هم في موقع السلطة لتوظيفها سياسيا، بحكم أن المجتمعات غير المنظمة أو المفككة يسهل ترويضها والسيطرة عليها، بل قد يستخدم الحكام الانتهازيون القبائل المتصارعة ضد بعضها البعض لتدشين أركان حكمهم وتثبيت سلطتهم. على العكس من ذلك، اجتهد الإمام السنوسي الكبير في حل النزاعات بين القبائل البرقاوية المتنافسة، وجمع شملها وتوحيد كلمتها وإنهاء الثارات والحزازات القديمة بينها. واستمر نهج الإمام السنوسي في بناء السلام داخل المجتمع القبلي البرقاوي من بعده تحت زعامة السيد محمد المهدي السنوسي الذي خلف أباه السنوسي الكبير، وبلغت الدعوة السنوسية في عهده غايتها من الانتشار وقوتها في التأثير، إذ اهتم الإمام المهدي بالبناء الداخلي للحركة السنوسية واستمر في نهج أبيه في إصلاح ذات البين بين القبائل.
الزاوية السنوسية كانت بمثابة المؤسسة الاجتماعية الأساسية في برقة، إذ تمكن السنوسيون من خلالها من تنظيم الكثير من الأمور الاجتماعية والشؤون الداخلية للقبائل. وبلغ عدد الزوايا السنوسية حينها أكثر من مئة زاوية في ليبيا وخارجها، حيث أنشأ السنوسي الكبير أول زاوية سنوسية بمدينة البيضاء عام 1841، ثم انتقل إلى الجغبوب التي أصبحت عاصمة الحركة السنوسية.
أسس الإمام الكبير نظام تعليمي متين للزاوية للزاوية السنوسية يجمع العلوم الشرعية بالعلوم اللغوية وصارت الزاوية واحة للعلوم المتنوعة وملتقى للأدباء حافلة بالقصائد والمساجلات الشعرية التي تحث على الفضائل والأخلاق ومدح المصطفى صلى الله عليه وسلم.
الوساطة السنوسية في حل النزاعات كانت تعتمد على الوجاهة الدينية كوسيلة لتحفيز المتنازعين على الجنوح إلى السلم، وذلك بالنصح والإرشاد والحث على نبذ العنف واتباع الشرع الحنيف وتوضيح أحكامه المتعلقة بالخصومات بين الناس وحرمة الأموال والدماء المعصومة.
يؤكد عالم الأنثروبولوجيا البريطاني ريتشارد إيفانز في كتابه (السنوسيون في برقة) على الدور المؤسسي لهذه الزوايا، موضّحا بأنها كانت لم تك عبارة عن مدارس دينية وملتقيات ثقافية فقط، بل كانت محطات للقوافل ومراكز اجتماعية ومضافات للغرباء وطلبة العلم، ومحاكم وملتقيات لعقد جلسات الصلح والوساطة وفض النزاع بين القبائل. على سبيل المثال، يذكر إيفانز بأن السنوسي الكبير عندما قام ببناء زاوية سنوسية بمدينة الكفرة جنوب شرق ليبيا كان يهدف إلى إصلاح ذات البين بين قبائل الوجنقة البديات وقبائل أزوية العربية. كذلك الحال بين بعض القبائل البرقاوية في الشمال والتي عانت من الحروب والنزاعات الداخلية فآخت بينها الحركة السنوسية وعقدت لها مواثيق الصلح.
الجدير بالذكر أن الوساطة السنوسية في حل النزاعات كانت تعتمد على الوجاهة الدينية كوسيلة لتحفيز المتنازعين على الجنوح إلى السلم، وذلك بالنصح والإرشاد والحث على نبذ العنف واتباع الشرع الحنيف وتوضيح أحكامه المتعلقة بالخصومات بين الناس وحرمة الأموال والدماء المعصومة. فبحكم وجاهتهم التي اكتسبوها من تعليمهم للناس شؤون دينهم، إلى جانب دورهم في المجالات الاجتماعية والاقتصادية، صار السنوسيون مرجعية مقبولة في فض النزاعات لكل الأطراف. وبفضل هذا النمط من القيادة الأخلاقية، صارت السنوسية في مدن برقة وقراها انتماء اجتماعيا وسياسيا، وهوية جامعة تفوق وتعلو على الانتماء القبلي الضيق.
بناء السلام الداخلي كان هو المدخل إلى التأسيس الهوياتي لدى الإمام السنوسي. فقد نجح في الانتقال من الهويات الفرعية إلى الهوية الجامعة من خلال تقريب المسافات بين مكونات المجتمع القبلي وتوحيد إرادتهم خلف أهداف ومصالح مشتركة، مما مهد لفكرة بناء الأمة الليبية على أنقاض مجاميع قبيلة.
التأسيس الهوياتي مر بمراحل مختلفة ابتداء من حل النزاعات وإخماد الفتن والعصبيات وإنهاء الحروب والثارات بين القبائل، مرورا بقيادة الليبيين ضد الإيطاليين تحت راية إسلامية سنوسية موحدة، إلى قيادة النضال السياسي من أجل الاستقلال، وصولا إلى الدولة الليبية الوليدة بقيادة الملك إدريس السنوسي، الذي دأب على مخاطبة الليبيين بلفظ "الأمة الليبية الكريمة"، لتنقطع مسيرة البناء الحضاري إثر التطورات السياسية اللاحقة. إصلاح النظام الاجتماعي وتطويره من خلال جمع الكلمة وتوحيد الإرادة، وهو من أهم خصوصيات الحركة السنوسية، بخلاف العديد من السلطات التي تعاقبت على حكم ليبيا قديما وحديثا، والتي افتقرت للاهتمام بالبناء الاجتماعي، بل ووظفته لصالح حساباتها السياسية كما ذكرنا آنفا.
مشروع السنوسي الكبير للإصلاح هو مشروع حي متجدد ينطلق من تعزيز القيم ومكارم الأخلاق، يشجع على التعليم والمعرفة، والعمل الجاد والاجتهاد، والتسامح والعطاء، والنهوض بالفرد سلوكا والمجتمع نظاما.
على المستوى السياسي تميز نهج السنوسي الكبير بالحكمة والمرونة واتسم بحسن تقدير الأوضاع السياسية وتغليب المصالح العامة المتمثلة في تخليص المجتمع من الفرقة والجهل والفقر على الخوض في صراعات سياسية. كذلك لم تتورط الحركة السنوسية في استخدام العنف أو المواجهة مع الحركات الإسلامية، ولم تتدخل في أي خلاف بين المسلمين إلا بالصلح. ولذا نرى أن الحركة السنوسية لم تتصادم مع الخلافة العثمانية، رغم أن السنوسي الكبير كان يعتبر أن بعض الشروط الأساسية كشرطية القرشية في الخليفة لم تتحقق في الخلافة العثمانية.
يشير الدكتور أحمد الدجاني في كتابه (الحركة السنوسية نشأتها ونموها في القرن التاسع عشر) إلى هذه الحقيقة، مبينا أن الإمام محمد بن علي السنوسي رغم إيمانه بأحقية القرشي في الخلافة إلا أنه لم يشأ إثارة القضية، إذ يرى السنوسي الكبير أنه ليس من مصلحة المسلمين إثارة هذا الخلاف وأن الأولى التركيز على جوانب الإصلاح الأخرى والمحافظة على مساحات العمل. كذلك تجنبت الحركة السنوسية في عهد السيد محمد المهدي السنوسي التصعيد مع مهدية السودان، وابتعدت عن مناطق نفوذهم في أفريقيا تجنبا لأي صدام أو تصادم مع أتباع الحركة المهدية. في المقابل لم تتوان الحركة السنوسية عن إعداد العدة وقيادة حركة الجهاد لصد الحملات الإستعمارية الفرنسية والإيطالية في تشاد وليبيا.
مشروع السنوسي الكبير للإصلاح هو مشروع حي متجدد ينطلق من تعزيز القيم ومكارم الأخلاق، يشجع على التعليم والمعرفة، والعمل الجاد والاجتهاد، والتسامح والعطاء، والنهوض بالفرد سلوكا والمجتمع نظاما. لذلك حري بالشباب الليبي استحضار سيرة الإمام السنوسي والتدبر في ملامح الإصلاح الاجتماعي لديه، واستخلاص الدروس والعبر لمواجهة تعقيدات زمانهم وواجبات وقتهم، واستحقاقات بناء السلم في مجتمعهم الّذي مزقته الصراعات.
كيف لا وصاحب هذا المشروع ينهل من فيض الوحي ويستقي من مورد النبوة العذب، وهو الذي نحسبه مخلصا لدينه ودعوته متجردا من أهوائه ومصلحته، مترفعا عن الخصومات ودافعا للسيئات بالحسنات، وهو الذي اشتهر بقوله: من يفعل بنا شرا نفعل به خيرا، من يفعل بنا شرا نفعل به خيرا، من يفعل بنا شرا نفعل به خيرا، حتى يغلب خيرنا شره.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.