لم تعد تنفع مع وائل الكتابة، أيّةُ كتابة، من أي نوع وفي أي لغة. صار وائل عصيا على الحروف ضادا أم صادا أم ظاء أم طاء أم لاما. يخجل كل اللغويين من سيبوبه حتى نعوم تشومسكي من تهجئة اسمه.
وائل لديه قاموسه الخاص في توظيف الخطر ليعيد صياغته خبرا يتلوه على الهواء مباشرة، وهو يودع قوافل الشهداء من عائلته، الزوجة والأبناء والأحفاد. وحين يتكلم وائل تصمت اللغة، وما يقوله هو الجملة فعلية أم إسمية.
خرج اسمه "وائل" وكنيته "الدحدوح" ولونه المعجون بطين غزة من كل القواميس، مثلما خرج عن أي توصيف أو تحديد. قبل وائل كانت "الجزيرة" القناة أو الصفة والموصوف علامة فاقت كل نظيراتها من العلامات، وتفوقت حتى على عشرات العلامات التجارية في شتى الشؤون وفي كل الحقول. كان وائل قبل غزة جزءا من هذه القناة والعلامة، أما بعد غزة، تفوقت "الجزيرة" القناة والعلامة معا، وقاسمهما المشترك وائل. صارت هي الخبر ومصدره وتحليله "حلل يا دويري". الصحفيون وأيقونتهم وائل صاروا خبرا يحتاج إلى تغطية وتحليل لما قبله ولما بعده. لم يعودوا مثلما هي وظيفتهم التقليدية مصدرا للخبر والمعلومة، فعشرات الصحفيين قتلهم نتنياهو بدم بارد كعادته الأكثر لؤما في القتل. أراد عبر قتل هذا العدد الكبير من الصحفيين إخفاء الخبر والحقيقة والمعلومة والمأساة، ولم يدر في خلده أن هناك من سيفشل خطته مثلما انكشفت إستراتيجيته عند أولى صواريخ "طوفان الأقصى".
تصدى له وائل الدحدوح شهيدا وشاهدا ومشاهدا "بكسر الهاء" ومشاهدا "بفتحها". فوائل لديه قاموسه الخاص في توظيف الخطر ليعيد صياغته خبرا يتلوه على الهواء مباشرة، وهو يودع قوافل الشهداء من عائلته، الزوجة والأبناء والأحفاد. وحين يتكلم وائل تصمت اللغة، وما يقوله هو الجملة فعلية أم إسمية. فعلا وفاعلا ومصدرا وصفة وموصوفا، لا تقف اللغة حائلا دون أي صياغات يقترحها وائل للجملة، فهو يقف على رأس الهرم مقلوبا أو غير مقلوب، ومثلما تغيرت كل قواعد الاشتباك في حرب غزة، غير وائل كل قواعد كتابة الخبر أو التقرير أو المعلومة. وحيث كل الناس تنزف دما في الحروب لحظة الجرح أو القتل إلا وائل، صار الدم ينزفه عند كل إطلالة وكل صناعة وكل صياغة وكل تغطية.
غزة العنيدة الشهيدة والشهادة على الذين يرتقون إلى السماء كل يوم، وكل ساعة، بل كل دقيقة.
لقد أخذ وائل يغطي نفسه ولنفسه فهو الشاهد والشهيد والشهادة. وائل قبل "حمزة" غطى استشهاد أم حمزة والابنة والحفيدة، وكان مهنيا وحياديا حتى في دموعه وشهقاته يقف مرابطا، وصارما، وصابرا، وعنيدا، وعنيفا باسما مبتسما قادرا على الإلقاء وابتكار الجمل والصياغات البلاغية العذبة الجميلة. نقلت "الجزيرة" تغطية وائل لنفسه وعن نفسه وعن غزة غزته، لا غزة أحد وهل هو إلا من غزة، إن غوت أو رشدت.
غزة العنيدة الشهيدة والشهادة على الذين يرتقون إلى السماء كل يوم، وكل ساعة، بل كل دقيقة. وفي لحظة ضعف لا تليق بوائل دعونا أنا وبعض الزملاء قناة "الجزيرة" أن تنقل وائل إلى مقرها للدوحة للحفاظ على حياته، مثلما كتب الزميل عبد الهادي مهودر، منشورا على موقع "الفيسبوك" وكتبت أنا على "إكس" مطالبا الجزيرة بالحفاظ "على ما تبقى من حياة وائل".
لكن صديقنا أستاذ الفلسفة الدكتور طه جزاع خالفنا قائلا: إن هذا لا يليق بوائل، فقد صار أسطورة ولم تعد تليق به الأماكن الآمنة، وهو أكبر من المكان وأكبر من الزمان، وهو الذي يصنع بعناد مكانه وزمانه ويواصل التغطية برغم نداءاتنا ونداء ابنته الذي كان يكسر الصخر حين طالبته بالبقاء على قيد الحياة لأنه لم يعد لها أحد غيره بعد استشهاد أمها وأخيها وعدد آخر من أفراد أسرتها.
لا تبكي يا ابنتي، فالبكاء لا يليق بك. أنت ابنة وائل الدحدوح الذي هزم شموخه جنرالات كل الحروب وفرسانها الأشاوس، وحياة وائل في مواصلة التغطية، فلم تعد من مهمة للجزيرة سوى انتظار ما يقوله وائل، شاهدا أو شهيدا أو شهادة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.