شعار قسم مدونات

حَبشةُ غزة وهزيمة "سيربيروس"

مجموعات من القوات خلال انسحاب الفرقة 36 التابعة للجيش الإسرائيلي من قطاع غزة (جميع الصور تصوير المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي عممها للاستعمال الحر لوسائل الإعلام)
تمكنت غزة من هزيمة "سيربيروس" وقطع رؤوسه وذيوله وتحدي رعبه بشجاعة وكفاءة وفعالية (الجيش الإسرائيلي)

رحم الله ابن بطوطة الجوال اللبيب، نقل لنا في تحفته، مشاهده وأنظاره، وجولاته وأسراره، كتب فيما كتب، عن رحلته لأفريقيا يصف مجلس الملك المالي سليمان، منتصف القرن الرابع عشر. عازفون على آلة البالافون وبهلوانيون يقومون بالقفز واللعب بسيوفهم، فجأة يظهر أشخاص يُدخلون أجسادهم في تماثيل من الريش، مزينة برؤوس طيور. هذه الأقنعة تجليات للأجداد، الذين عادوا مؤقتا بين الأحياء، يقفون هكذا مخيفين صارمين أمام الحاكم، شهودا ومنذرين، ويبدؤون في الغناء بلغتهم المالينكية، يقولون: "على هذا العرش الذي تجلس عليه كان جلس ملك قبلك قام بأعمال صالحة.. فافعل أنت أيضا الخير الذي سيتذكره الناس بعدك". لقد كانت من عادات أفريقيا القديمة التي حافظ عليها الإسلام. وهي تعبير عن يقظة ورسوخ عدالة.

اكتشفت أن شعوب أفريقيا من أشفِّ الشعوب قلوبا وأصفاها معدنا، وأنها تكتنز كثيرا مما يحتاجه العالم بأسره.

للتمثلات أهمية كبيرة في حياتنا، إذ تؤثر على كيفية تعلمنا وتفاعلنا مع البيئة كما يقول جون ديوي، وعلى تفكيرنا وسلوكنا وتفاعلنا مع العالم من حولنا وتحدد توقعاتنا وأهدافنا. وما أكثر ما تزل بنا تمثلاتنا عن أفريقيا.

توجهت عام 2014 للعمل بمنظمة خيرية بعاصمة النيجر نيامي، ولم تكن تمثلاتي -مثل سائر الناس- عن أفريقيا يومها سوى أنها من دول العالم الثالث المتخلفة عن ركب الحضارة، والتي تعاني من الفقر والخصاصة والفساد والأمراض، لقد كانت تجربة أقبلت عليها على مضض.

تعلمت بعدها على مدى عامين من المعاشرة، ما شكّل عندي وعيا جديدا وهذب رأيي وأرهف حسي، إلى جانب ما اكتشفت من نقائص وعوار يعود في أكثره لأثر الاستعمار، اكتشفت أن شعوب أفريقيا من أشفِّ الشعوب قلوبا وأصفاها معدنا، وأنها تكتنز كثيرا مما يحتاجه العالم بأسره.

درست في جامعة عبدو موموني بالعاصمة نيامي قسم الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع واحدا من إبداعات حكماء النيجر، شكَّل مفتاحا مكَّن الشعب المكون من أكثر من 20 قبيلة مختلفة في ثقافتها ولغتها أن يظل متحدا. مفتاح "الأبوة" القبلي أو "المؤاخاة"،  وهو ارتباط تاريخي أسسه حكماء النيجر منذ قرون، تمت بموجبه المؤاخاة بين الهوسا مع الطوارق والهوسا مع الصونغاي وبين الطوارق والتبو وغيرها من عمليات "المؤاخاة" بين قبائل كبيرة وأخرى صغيرة، أو بين قبائل متناحرة، مما شكل أساسا لسلام واتفاق وتبنٍّ ما يزال أثره قائما في المجتمع، وإن فعلت به السياسة الأفاعيل.

لا يعير الغرب انتباها لغير فَروِه ولا يتفضل بوقت لتأمل غيره، ولا يستفيد من تاريخ، فقد وقف عام 2007 بالعاصمة السينغالية دكار على منصة الجامعة، زعيم من عالم الأنوار، الرئيس الفرنسي ساركوزي آنذاك، يصرح أن الإنسان الأفريقي لم يلج التاريخ بعد. لم يكن ساركوزي آنذاك سوى تجسيد لاستكبار الدول الغربية الاستعمارية، وصدى لفلسفة غربية كان الفيلسوف الألماني هيجل أحد صناعها، يوم رأى في كتابه فلسفة التاريخ، أن أفريقيا ليست جزءا من التاريخ، بل هي تقع خارج الجدلية التاريخية. لا تشارك في عملية التطور البشري، ولاتزال في مرحلة الطبيعة، حيث تسود العبودية والحكم المطلق والبدائية والوحشية، بعيدا عن مرحلة الحرية والعقلانية. وأنها ستصبح جزءا من التاريخ فقط عندما تتخلى عن ثقافتها التقليدية وتتحول إلى الثقافة الأوروبية، وإلا فستظل خارج التاريخ.

خرجت في رجب من السنة الخامسة للبعثة مجموعة من الصحابة، وتبعتها أخرى على رأسها جعفر ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، حتى بلغ عدد المهاجرين قرابة 116 شخصا. دخلوا أرض الحبشة آمنين، واستقروا فيها دون أن يتعرض لهم أحد

أين باب هذا التاريخ؟ ومن يملك مفتاحه؟ وما الشروط لنيل شرعية ولوجه؟ وهل هناك مكان فيه كاف للجميع أم أنه "عرض محدود"؟ ومن بوابه وحرسه، المصرحون بالدخول والخروج؟

شكل الغرب وما يزال حارس التاريخ وبوابه، ولعله يجسد سيربيروس من الميثولوجيا الإغريقية، وهو وحش مرعب ذو ثلاث رؤوس وذيول ثعبان، وجسد تنين. كان حارس بوابة العالم السفلي، يمنع الموتى من الفرار، ويسمح للأحياء فقط بالدخول إذا حصلوا على إذن من الإله هاديس.

عودة لأفريقيا الرائعة مصدر التاريخ وأصله، الأحق ببابه وأعاليه، موطن "لوسي" الحفرية المكتشفة بإثيوبيا، والتي يقدر أنها عاشت قبل 3.2 مليون سنة، ثنائية الحركة مثل الإنسان، بحجم دماغ أكبر وعظم فقري، أقدم من "إنسان هايدلبرغ" المكتشَف بألمانيا سنة 1907 والذي يقدر أنه عاش قبل 315 ألف سنة فقط. عودة إلى أمنا أفريقيا بعيدا عن معطيات الحفريات، تتحدث أفريقيا اليوم حوالي 2400 لغة، وتكتنز غنى كبيرا متنوعا، فوق الأرض وتحتها، وغنى في التاريخ والحضارة، لا تحتاج مع كل ذلك لإذن بدخول التاريخ..

وعن غنى حضارة أفريقيا بقيم العدالة أسرد مثالا سرت بذكره الركبان، ظهرت مملكة أكسوم شرق أفريقيا منذ القرن الأول للميلاد وأصبحت في قمة ازدهارها في القرن السابع الميلادي، وكانت تمتد في منطقة البحر الأحمر والشرق الأوسط، كما كانت تتحدث اليونانية قبل ظهور الإسلام بقرنين، وشكلت حلقة وصل مع دول البحر المتوسط، فكانت قوية تجاريا لها تقاليد عريقة ومعمار فخم. وكان "أصحمة" أمير مملكة أكسوم، ذو شخصية قوية وجادة، متفردا بصفات القيادة والعدالة، ما أهَّله لقيادة البلاد بعد موت أبيه حسب رواية الإثيوبيين المسيحيين، واستطاع بحكمته أن يلم ما تناثر من أمور المملكة، فوحد أجزاءها ووسع حكمه، وكان محبوبا لدى الشعب لكفاءته وعدله وحسن إدارته.

ويوم اشتد البلاء على الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في مكة، وعزَّ عليه ما كان يقع عليهم من الأذى قال لبعضهم: "لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها مَلكا لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه". فخرجت في رجب من السنة الخامسة للبعثة مجموعة من الصحابة، وتبعتها أخرى على رأسها جعفر ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، حتى بلغ عدد المهاجرين قرابة 116 شخصا. دخلوا أرض الحبشة آمنين، واستقروا فيها دون أن يتعرض لهم أحد، وقد روى الإمام أحمد من حديث أم سلمة أنها قالت: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار فآمننا على ديننا، وعبدنا الله تعالى لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه. كان "أصحمة" نجاشي الحبشة الحكيم العادل الذي لا يظلم عنده أحد.

لا شك أن سيربيروس وحش قوي من الصعب هزيمته. ومع ذلك، فالأساطير الإغريقية تحكي أن قد تمت هزيمته عدة مرات. في إحداها، تمكن هرقل من هزيمة سيربيروس كجزء من اثنتي عشرة مهمة قام بها، باستخدام عصاه السحرية، وأخذه إلى أثينا، التي أطلقت سراحه في النهاية.

لا غرابة أن تؤكد أفريقيا استحقاقها وسام العدل والنصرة، بموقف جنوب أفريقيا مقاضاة إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية في ملف حرب الإبادة الجماعية التي تتعرض لها غزة. ولا غرابة أن ينم الفريق الجنوب أفريقي عن مصداقية عالية وصدق تام والتزام عميق، فلقد رضع الأفارقة في لبن أمهاتهم قيم العدالة والنصرة، ففي إحدى روايات الملك "أصحمة" أنه نُفي من قبل عمه ومنع من حقه في الملك وبيع عبدا، ثم ضربت صاعقة عمه وجُنَّ بنوه، فعاد إليه ملكه وأقسم ألا محيد له عن العدل. يكتنز تراث أفريقيا قصص عدالة ونصرة وإيثار للصدق والمصداقية، شكلت الحوافز السامية العميقة لهَبَّةِ توماس سانكارا وثورة نلسون منديلا وجميع ثورات التحرر التي ما تزال تعد باستئناف.

بعد موقف جنوب أفريقيا، وفي موقف آخر مهم محمل بالدلالات، عبرت الرئاسة الناميبية عن امتعاضها من ألمانيا التي وقفت إلى جانب إسرائيل في محكمة لاهاي، مذكرة ألمانيا بارتكابها مذبحة بحق عشرات آلاف الناميبيين بدءا من عام 1904.

إلى جانب القيم المحفوظة عميقا في طبيعة الأفارقة، شكل الوعيَ الإفريقي بالعدالة، فواجُ ما ارتكبه الاستعمار الغربي "الأنواري"، ومن أكبر الفواجع إرسال الاستعمار الغربي ما يقرب من 12 مليون امرأة ورجل وطفل رقيقا عبر المحيط الأطلسي لاستغلال مستعمراته الأميركية. فواجعُ تحتفظ بها الذاكرة الأفريقية الحية على الرغم من احتكار الغرب صياغة السرد التاريخي وبنائه ما سماه الفيلسوف الكونغولي فومبى يوكا مبيمبي "المكتبة الاستعمارية" تروي التاريخ الأفريقي نيابة عن أهله.

لا شك أن سيربيروس وحش قوي من الصعب هزيمته. ومع ذلك، فالأساطير الإغريقية تحكي أن قد تمت هزيمته عدة مرات. في إحداها، تمكن هرقل من هزيمة سيربيروس كجزء من اثنتي عشرة مهمة قام بها، باستخدام عصاه السحرية، وأخذه إلى أثينا، التي أطلقت سراحه في النهاية.

لكن يبدو أن غزة أذِنت اليوم بصرخة عالمية وأخرى أفريقية نجاشيه، تشكل على إثرها لدى أحفاد النجاشي من غير الخونة الأتباع الناعقين المستلبين المنتحلين نحلة المستعمر الغالب، وعيٌ حضاري عميق، يوشك إن تم دعمه وتسويقه والالتفاف حوله أن يؤسس بكل تأكيد لعالم جديد. لقد تمكنت غزة من هزيمة "سيربيروس"، وقطع رؤوسه وذيوله، وتحدي رعبه بشجاعة وكفاءة وفعالية، وكشفت زيف ادعائه الحفاظ على الحياة والانتصار للأحياء ضد الموت، فضحت أنه إنما يوالي الموت والموتى، وجذب موقفها السامي مواقف أفراد ودول، تداعت لصدقه واستجابت لرسالته، مطاردة جرائم الوحش سيربيروس في أقطار الأرض، فشكرا غزة الفاضحة، شكرا غزة الصادحة، شكرا غزة الفاتحة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان