من الصعب تجاهل صور الخيم العشوائية وتكدس آلاف المدنيين في المدارس ودور الإيواء الفلسطينية، ومع أن هذه الصور هي الأقل قساوة في المحرقة التي لاتزال مستمرة منذ شهور ثلاثة، إلا أنها تعيد إلى الأذهان ملامح جريمة تهجير جديدة أصبحت مألوفة ومبررة في القرن الحالي.
لم تُخف "إسرائيل" منذ الساعات الأولى لأحدات الـ7 من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 نيتها تهجير الفلسطينيين من غزة ودفعهم باتجاه سيناء داخل الحدود المصرية، بحجة وقف التهديد القادم وتعزيز أمن المنطقة، وأعلن العديد من الوزراء والسياسيين الإسرائيليين العديد من التصريحات خلال الأشهر المنصرمة التي تروج لكون خيار تهجير الفلسطينيين الخيار المثالي الذي يتوافق مع السياسة الإسرائيلية.
تعد عملية التهجير القسري جريمة ثلاثية الأركان، فهي تعتبر وفق أعراف المحكمة الجنائية الدولية من الجرائم ضد الإنسانية، والتي ترتكب لأغراض سياسية أو عرقية أو دينية في إطار هجوم واسع النظاق
"التهجير القسري" حزمة من الجرائم والانتهاكات
يعرّف التهجير القسري بأنه "ممارسة ممنهجة تنفذها حكومات، أو قوى شبه عسكرية، أو مجموعات متعصبة تجاه مجموعات عرقية أو دينية أو مذهبية، بهدف إخلاء أراض معينة وإحلال مجاميع سكانية أخرى بدلا عنها"، فهو عملية إجبار للسكان المدنيين وإرغامهم على الابتعاد عن أماكنهم الأصلية باستخدام وسائل الضغط والترهيب والاضطهاد، ونقلهم إلى أماكن جديدة ضمن إقليم الدولة نفسها أو إخراجهم خارج البلاد إلى دولة أخرى، وفق سياسات محكمة مخطط لها، وذلك من أجل إقصاء السكان الأصليين وتغيير بنية ديمغرافية أو فرض واقع جديد أو إحلال مستوطنين بدل عنهم.
قانونيا، تشير المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 إلى حظر عمليات النقل القسري الجماعي أو الفردي للأشخاص، أو نفيهم من مناطق سكناهم إلى أراض أخرى، إلا في حال أن يكون هذا في صالحهم بهدف تجنيبهم مخاطر النزاعات المسلحة.
كما تعد عملية التهجير القسري جريمة ثلاثية الأركان، فهي تعتبر وفق أعراف المحكمة الجنائية الدولية من الجرائم ضد الإنسانية، والتي ترتكب لأغراض سياسية أو عرقية أو دينية في إطار هجوم واسع النظاق، كما تعتبر جريمة التهجير القسري ضمن زمرة جرائم الإبادة الجماعية، لأنها تتسبب بنقل المدنيين وأطفالهم قسرا إلى جماعات ومناطق أخرى بهدف التسبب بهلاكهم بشكل كلي أو جزئي، هذا إلى جانب اعتبارها من جرائم الحرب لكونها من الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف المنصوص عليها عام 1949.
ومن جهة أخرى تعد جريمة التهجير القسري انتهاكا صارخا لحقوق الإنسان، وتنتهك حزمة واسعة من الحقوق المدنية والثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، حيث تشير أدبيات الأمم المتحدة إلى أنها تتعارض مع الحق في الحياة والحق في عدم الخضوع لمعاملة قاسية أو لا إنسانية أو مهينة، كما أنها تحرم الأشخاص من حقهم في الأمن والحياة في مستوى معيشي ملائم، إلى جانب كونها تنتهك حقوق حرية التنقل واختيار مكان الإقامة والحق في التمتع بخدمات الصحة والتعليم والعمل.
ومن جهة أخرى تنطوي جريمة التهجير القسري على حالة من الإجبار والإرغام التي تهدد حياة المدنيين، وإمكانية وصولهم للغذاء والخدمات الصحية والتعليمية، إلى جانب فقدانهم أملاكهم ومدخراتهم وأعمالهم وأوراقهم الثبوتية وممتلكاتهم ، كما تحمل جانبا تمييزيا واضحا، فهي تستهدف السكان والشعوب الأصلية بهدف خلق واقع جديد، وغالبا ما تكون هذه المجموعات من السكان الأصلييين مهمشة فقيرة محرومة من الحقوق، تعرضت خلال فترات طويلة للعديد من الضغوط لإرغامها نهاية على الامتثال لهذه الجريمة.
تزيد جريمة التهجير القسري من حالة التمييز والعزلة وتكرس حالة الفقر وعدم المساواة وتساهم في تأجيج الصراع الاجتماعي وتحرم شريحة من السكان من حزمة من الحقوق بشكل مباشر أو غير مباشر، وإلى جانب ذلك تترافق مع معاملة لا إنسانية مهينة، مصحوبة بالعنف والتعرض للمضايقة أو الضرب أو الخطف أو الاعتقال أو الابتزاز أو حتى الاستغلال الجنسي، حيث يبدو تأثير تجربة التهجير واضحا بشكل جلي على النساء والأطفال الذين فقدوا المسكن والحماية والخصوصية، وتعرضوا لجرعات مضاعفة من الرعب والخوف والفقد وحالة من عدم اليقين، وأجبروا على الحياة في مخيمات وتجمعات وظروف لا تتوافر فيها أدنى مقومات الحياة الكريمة.
وجدت "إسرائيل" في هجوم الـ 7 من أكتوبر فرصة حاسمة لممارسة دور الضحية، والصراخ والعويل حول حقها في الدفاع عن نفسها وطلب الدعم المفتوح، في وقت كان الهدف الرئيسي هو ابتلاع المزيد من الأراضي، والتخلص من الوجود الفلسطيني في غزة
"تهجير الفلسطينيين الطوعي" النكتة السمجة
ردد المسؤولون "الإسرائيليون" منذ بداية أحداث غزة مصطلح "التهجير الطوعي للفلسطينيين" في محاولة للتلاعب بالمصطلحات والرأي العام، والإيحاء بأن هذا الانزياح السكاني حدث دون إكراه، رغم ما ارتكبته دولة الاحتلال من جرائم خلال 90 يوماً من حملتها العسكرية المجنونة.
لقد قتلت الآلة العسكرية "الإسرائيلية " ما يقارب 23 ألف مدني جلهم من النساء والأطفال ودمرت ما يقارب 70% من مساحة القطاع، وقامت باعتقال 3 ألاف شخص من قطاع غزة، ومنعت دخول المساعدات والغذاء والدواء، وركزت على استهداف كل مرافق الحياة، بعد أن نجحت بتقسيم قطاع غزة إلى شطرين، محاولة بذلك إجبار السكان على الابتعاد عن خطوط الاشتباك والعمليات العسكرية، ودفعهم باتجاه الحدود المصرية بهدف إنشاء أمر واقع جديد تجبر العالم وحكوماته على قبوله.
لقد وجدت "إسرائيل" في هجوم الـ 7 من أكتوبر فرصة حاسمة لممارسة دور الضحية، والصراخ والعويل حول حقها في الدفاع عن نفسها وطلب الدعم المفتوح، في وقت كان الهدف الرئيسي هو ابتلاع المزيد من الأراضي، والتخلص من الوجود الفلسطيني في غزة الذي يشكل قرابة الـ 30% من إجمالي من بقي من فلسطيني الداخل، والتخلص من فكرة المقاومة التي استنزفت وجودها وعكرت أمنها.
لم تكن المرة الأولى التي تنخرط فيها "إسرائيل" بمثل هذه الجرائم والانتهاكات ولن تكون الأخيرة، فسجلها حافل بكافة أشكال الإجرام الممنهج والذي يتربع على عرشه قيامها بتشريد 62 % من الفلسطينيين وإخراجهم خارج أرضهم، ومصادرة أملاكهم وحرمانهم من حقوقهم، لن يكفي مع هذه الجرائم مجرد التعويل على الصمود الداخلي الشعبي والمقاومة الفلسطينية، بل لا بد من بذل كل الجهود المتاحة، حتى لو لم تكن نتائجها سريعة.
إن واجب الوقت اليوم يحتم مواجهة هذا الحجم من الإجرام بكافة الوسائل المتاحة، وتحريك كافة المسارات الحقوقية على كافة المستويات، وإطلاق الدعاوى الدولية من قبل الفلسطينيين وغير الفلسطينيين على غرار القضية التي رفعتها حكومة جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، والمطالبة بمحاكمة المتسببين بهذه الجرائم وحلفائهم كشركاء في الجريمة، ومطالبتهم جميعا بتقديم تعويضات للضحايا وبأثر رجعي عن كل ما عانوه.
ورغم أن هذا المسار طويل ومرهق ولا يقدم نتائج فورية، إلا أنه يخلق ملفات ضغط وملاحقات تجعل كلفة هذه الجريمة باهظة ومستمرة، وتبعاتها القانونية لا يمكن تجاهلها أو الانسحاب منها لا من قبل الجاني ولا داعميه، عدا عن كونها تقدم توثيقا ماديا للجريمة بأبعادها ومن أفواه ضحاياها، إلى جانب كونها محاولة لحفظ الحقوق بشكل قانوني لا يمكن التلاعب به، وبما يشكل ملفات ضغط سياسي إضافية قد يكون لها تأثير واضح في المستقبل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.