كم غضبنا في بداية العدوان على غزة من التقارير التي تحدثت عن ضوء أخضر أمريكي لاستمرار الحرب حتى عطلة أعياد رأس السنة، انتهت عطلة الأعياد ودخلنا في عام جديد، ومازالت حرب الإبادة، والنزوح القسري، والتجويع الممنهج، والموت البطيء للجرحى والمرضى مستمرة، ومازالت المقاومة صامدة ومستمرة في إيقاع ضربات موجعة ومبهرة رغم الاختلال الصارخ في موازين القوى.
نصيبنا من معركة غزة أن نضغط لوقف الحرب، وإخراج الجرحى للعلاج، وفتح المعابر لإدخال الوقود والطعام والدواء، وإنهاء كل قوانين وممارسات تجريم المقاومة ووصمها.
إن طمأنينة الإنسان إلى بسالة المقاومة وذكائها، لا يجب أن تُنسينا حقيقة أننا كأمة تفخر بهؤلاء الرجال، لم نفعل شيئا سوى أننا تركنا ظهرهم مكشوفا ليد الغدر، حين انسلوا هم ليأدوا أمانة الله في الأرض، تركوا أطفالهم ونساءهم وشيوخهم مهجّرين مجوّعين، وعجزنا نحن عن إدخال طعام ودواء يعزز صمودهم ويواسي ليالي فقدهم وقلقهم الطويل حول مصير أحبابهم. هؤلاء الأبطال الذين تُسطر الأغاني والأشعار في مدح بطولاتهم، فارقوا بيوتهم قبل ثلاثة أشهر، لا هم يعلمون إن كان أهلهم في الأرض أو السماء، ولا أهلهم يعلمون، يأمّل كل طرف منهم بأن تنتهي الحرب وتحمل له الأيام أخبار مطمئنة عن أهله وأحبابه.
في غزة مشهدان بارزان، لا تستطيع رؤية أحدهما إلا وشدك الآخر نحوه، مشهد مقاومة وبطولة تحطم كل يوم أسطورة التفوق الإسرائيلي، ومشهد مأساة إنسانية لا تكفي الكلمات لتوصيف قسوتها، ولا يجب أن يشغلنا أحد المشهدين عن الآخر، ولا أن نخلط بينهما أبدا.
نحن نتصور أمام هول الحرب أننا لا نملك لغزة سوى الدعاء ومقاطعة الشركات الداعمة لاستمرار الإبادة، لكن هذا ليس سوى خلط بين مشهدي البطولة والمأساة. قد نكون لا نملك أمام مشهد البطولة سوى الدعاء للمقاومين بالثبات وسداد الرمي والرأي، لكننا حتما نملك الكثير لنفعله أمام مشهد المأساة الإنسانية، وهذا واجبنا وحصتنا من المعركة التي قدر الله أن نخوضها ونحن خارج فلسطين، وإلا كنا من القاعدين المتخاذلين.
نصيبنا من معركة غزة أن نضغط لوقف الحرب، وإخراج الجرحى للعلاج، وفتح المعابر لإدخال الوقود والطعام والدواء، وإنهاء كل قوانين وممارسات تجريم المقاومة ووصمها. أما وسائلنا فهي كل أشكال الاحتجاج السلمي والإضراب والعصيان المدني، كل منا وفق بلده وموقعه. فهذه ليست معركة غزة وحدها بل معركة الشعوب ضد الكسل والإحباط وانعدام الجدوى وفقدان الإيمان الذي فرضته علينا عقود من الاستبداد والترهيب الأمني وتجريف الوعي.
أسلوب الاحتجاج اللاعنفي نجح في العديد من التجارب العالمية في وقف العنف والاضطهاد والتمييز العرقي، وكُتبت مئات المؤلفات في ذلك، وهو قادر على إيقاف الإبادة في غزة في اللحظة التي يتم فيه توجيه تهديد حقيقي لمصالح الدول والشركات والكيانات الداعمة للحرب
بعد ثلاثة شهور من حرب الإبادة، لا يعقل أن محاولات التظاهر أمام السفارات الأميركية تفشل في العالم العربي لأن قوات الأمن تغلق الشوارع وتمنع الوصول فيتظاهر الناس على بعد كيلومترات في الأردن مثلا! لماذا بعد كل هذا الوقت لا يقلب الجمهور العربي الموازين ويغلق هو الشوارع قبل أن تغلقها قوات الأمن؟ لماذا لا نبدل احتراقنا السلبي أمام شاشات الأخبار بالنزول في أفواج بشرية إلى الشارع، لنغلق أحياء السفارات؟ ونقطع الوصول إلى المؤسسات الحكومية والمربعات الاقتصادية إلى حين أن تتوقف الإبادة؟!
أسلوب الاحتجاج اللاعنفي نجح في العديد من التجارب العالمية في وقف العنف والاضطهاد والتمييز العرقي، وكُتبت مئات المؤلفات في ذلك، وهو قادر على إيقاف الإبادة في غزة في اللحظة التي يتم فيه توجيه تهديد حقيقي لمصالح الدول والشركات والكيانات الداعمة للحرب أو التي تستطيع إيقافها ولا تفعل. الاحتجاج اللاعنفي يبعث رسالة التهديد والقوة دون التورط في فعل عنيف أو مخل بالقانون، وهو أداء جماعي يصعب على الدولة محاصرته ومعاقبة المنخرطين فيه لكثرتهم.
الاحتجاج اللاعنفي قد يأتي على شكل مواكب سيارة تغلق طرق حيوية، أو تجمعات بشرية تغلق محطات القطار والمواصلات العامة، أو تخييم جماعي لإغلاق شوارع مفصلية، أو المبيت في الشارع لقطع الوصول إلى سفارات ومؤسسات حكومية ومصالح اقتصادية، أو رشق الطلاء الأحمر على جدران مؤسسات وشركات متورطة بالإبادة، أو حتى الاعتصام حولها وعرض صور رمزية بتقنية العكس الضوئي، ويمكن أن يكون عن طريق جنازات رمزية أمام مؤسسات متورطة، وحملات تشهير مدروسة بالسياسيين والتجار المتورطين بدعم الإبادة، وقطع إفادات مسؤولين وبرلمانيين بهتافات محكية أو مكتوبة لوقف الابادة، أو الإضراب الجزئي في المؤسسات التعليمية بهدف التثقيف والتعبئة، والامتناع الشامل عن دفع الفواتير والضرائب لشهر قابل للتمديد، ويمك أن تتناوب النقابات المهنية والعمالية على إعلان يوم إضراب شامل، وإغراق البريد الحكومي والبرلماني بخطابات ورسائل ضاغطة يتم تمريرها عبر النقابات، وغيرها من الوسائل التي يمكن تطويرها جماعيا وفقا للملابسات المحلية.
الاحتراق السلبي ومراكمة مشاعر العجز والاكتئاب والعار أمام مشاهد القتل والإبادة قد تؤدي إلى انفجارات غير رشيدة وغير مؤثرة في صالح وقف الحرب، وهذا يضاعف من مسؤولية الأحزاب والنقابات وقادة الرأي والعمل العام
هذا النوع من الاحتجاج يحتاج إلى طول نفس وإيمان بالعمل الجماعي. أما كونه لا عنفيا فهو لا ينفي أن الدولة قد تنجر لاستخدام العنف والترهيب من أجل قمعه، لكنه يبقى الوسيلة الأكثر نجاعة عبر التاريخ لعكس عنف الدولة واحتوائه. وحتى عندما يأخذ شكل الإضراب، أي الامتناع عن العمل أو التسوق أو الدراسة أو دفع الضرائب، فهو يعد عملا صاخبا ومؤثرا وبعيدا عن السلبية.
إن الاحتراق السلبي ومراكمة مشاعر العجز والاكتئاب والعار أمام مشاهد القتل والإبادة قد تؤدي إلى انفجارات غير رشيدة وغير مؤثرة في صالح وقف الحرب، وهذا يضاعف من مسؤولية الأحزاب والنقابات وقادة الرأي والعمل العام في توجيه جهود الجماهير نحو ما هو مؤثر، وهذا اختبار أخير لهذه الكيانات التي تدعي تمثيل الشارع فإما أن تنجح أو تراكم الفشل.
غزة أمام معركة طويلة تزداد شراسة كل يوم، وحتى لو تم إعلان وقف إطلاق النار غدا، ستبدأ معركة أشد ضراوة ستشترك فيها أنظمة وقوى عربية وغربية، لتساوم الغزيين على الدواء والغذاء وإعادة الإعمار مقابل تنازلات عجزت إسرائيل عن انتزاعها بالحرب، وتريد انتزاعها بأسلحة التهجير والتجويع والأوبئة. هذا امتحان حقيقي لكل الشعوب والأحزاب والكيانات المتضامنة مع غزة: هل ستؤدي دورها في المعركة أم ستركن إلى خداع الذات والجمهور بمناصرة تكتفي بالدعاء والمقاطعة؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.