الواقع المؤقت.. أرقام قياسية تتحطم وأسقف للمعرفة تتطاير بفعل ذلك النشاط الذهني البديع والجهد العقلي الرفيع، فقد تطورت الأفكار وتغيرت الأدوات وصار حرِيّا بكل من يرغب في البقاء أن يتابع كل جديد، فما زلت أذكر أنني في عام 2008 كتبت عن الفصول الافتراضية والسبورة الذكية، فأصبح بعض من حولي يكيلون لي النقد وأن هذا من ترف العلم، إذ لا علم بلا معلم ينتصب وطلبة له متابعون، ولا معرفة دون ذلك الكتاب التقليدي بين أكف الطلاب وأعينهم، وقد كنت أختلف معهم أكثر مما أتفق.
هي التكنولوجيا
تفاجئنا وتبهرنا في هذه الأيام، فهي تسير عجلى نحو القمة المؤقتة، فلم يعد لها قمة ثابتة، ذات يوم كانت الفصول المقلوبة ثم أصبحت الفصول المختلطة ثم الافتراضية، وكالعادة كل تطوير يتطلب تطورا في الأدوات والإستراتيجيات، أذكر مرة أنني اقترحت على صديقي أن نعمل فصولا إضافية لطلابنا من خلال برنامج سكايب (البرنامج الذي كان وحيد عصره)، وقلت لصديقي فلنسمي الفصول "فصول إثرائية عن بُعد"، فأعجب بالفكرة وشجعني حينها، سرنا بها قليلا لكن الطبع قد غلب التطبع وعدنا أدراجنا، لم يكن ليخطر ببالي أننا بحاجة إلى جائحة مثل كورونا لكي نطور من أدواتنا وأساليبنا، بل وعقليتنا، مرغمين، لقد تطورنا رغم أنوفنا، فصرنا نتعلم ونشتري ونتزوج افتراضيا، لا بأس فإن ما أنجزناه بسببها يغفر لها ذاك التسلط.
من أين جاء ميتافيرس؟
كثيرا ما يحلق بل "يشطح" البعض في مجال التكنولوجيا الحديثة وتوصيفها لا سيما في الأمور التي لا يحيطون بها علما، وموضوعنا مَثلٌ جليٌّ على مثل هذا، كيف لا وقد كانت بداية تداول هذا المصطلح من خلال رواية خيال علمي بعنوان "تحطم الثلج" للكاتب الأميركي نيل ستيفنسون، وهذا يدفعنا إلى السؤال الأهم: من أين جاء هذا "ميتافيرس"؟ وصولا إلى مدى سطوته على التعليم، فهو كما وصفه ستفينسون عالم سحري لا يوجد إلا في الإنترنت، بل هو عالم ما بعد الإنترنت، الذي هو أشبه ما يكون بتعويذة سحرية تمثلت في شيفرة صيغت بلغة كمبيوترية نتج عنها عالم واحد ذكي، ولكن الواقع يقول إن هذا العالم هو تجمع أشياء كانت مألوفة لدينا يوم كانت متفرقة، ثم ما فتئ سحرة العالم يؤلفون بينها، الواقع الافتراضي (VR)، والواقع المعزز (AR)، والواقع المختلط (MR)، والخدمات السحابية (CS)، حيث ترون أنها أشياء ألفناها على أكثر من نطاق، لكنها يوم اجتمعت كانت ذاك العالم السحري.
تخوف بلا مبرر
هل ما زال لزاما على الطلبة حتى يوم الناس هذا أن يتعبوا وأن يتغلبوا عليهم شقوتهم حتى يحصلوا على المعلومة؟ هل المعلومة المريحة في مصداقيتها شك؟ أم إنه ما زال من الواجب علينا ترديد "وذو علم يشقى في النعيم بعلمه"؟ ألا يكون ذو علم بلا شقاء؟ أليس من ثمرات العلم أن يسهل طريق العلم؟
إن التخوف على جودة العلم والمعرفة من التكنولوجيا الحديثة ما هو إلا تراتيل ندبة في يوم عرس، فأيهما أجود للتعليم في مجال علوم الأرض على سبيل المثال لا الحصر ربط الطلبة بقراطيس تبدونها وتخفون كثيرا، أم أن يعيش الحدث في فوهة بركان ثائر افتراضيا؟ ألا يرتقي بمستوى الطبيب أن يعايش العمليات الجراحية الدقيقة والخطيرة مع أمهر أطباء العالم الذين تصعب زمالتهم في الواقع المعاش؟
ما أريد الإشارة إليه أن على المرء أن يجتهد في الحصول على المعرفة بأدوات عصرها وأساليب وقتها.. لقد تطور الأمر فأصبح هناك مختبرات افتراضية تفي بغرض التجربة، بل تعد أكثر سلامة من التجارب الحقيقية، لِجُوْا عالم ميتافيرس بكل جرأة ومهارة، ودعوا تلك القيود المخملية التي تعزف على وتر السراج والمحبرة والسفر في الصحاري والقفار لأخذ العلم، ذاك عصر فاز أهله بالسبق، وهذا زمان نقر الأزرار لخدمة المعرفة بحثا وحفظا وتمحيصا.
ميتافيرس نعمة أم نقمة؟
وأتفهم تخوف المعظم، لاسيما الأكاديميين، من ميتافيرس وأثره في تدني جودة التعليم والبحث العلمي. أستذكر الجلبة التي أثارتها الثورات الصناعية منذ العجلة وحتى الإنترنت وتعليم الآلة، وكان المبرر الرئيسي لهذه التخوفات هو إما قلة جودة المنتج وإما التخلي عن كثير من القوى العاملة البشرية، ولكن كلا الأمرين لم يتم، بل على العكس فقد وفّرت الثورات الصناعية فرص عمل جديدة، فلم لا يكون ميتافيرس كذلك يزيد من جودة البحث العلمي والأكاديمي لا سيما وأن الكثيرين يرون أن ميتافيرس سيوفر المعلومة دون جهد أو تعب.. وهل تأخذ المعلومة مصداقيتها من التعب في إيجادها أم في جدواها وتأكيد الواقع صحتها؟ بعد أن تجاوزنا زمن فيمتو ثانية أصبحت سرعة الحصول على المعرفة بغض النظر عن وسائلها ميزة وليس منقصة، ولكن الأمر يحتاج إلى توفير البنية التحتية المناسبة في المؤسسات التعليمية، وهي في متناول اليد (تكلفة يمكن توفيرها إن صدقت الإرادة) إذا ما قورنت بالنتائج الإيجابية التي ستنعكس على العملية التعليمية والبحث العلمي.
الطالب الأفاتار أكثر فعالية في التعلم
إن الطلاب الذين يتعلمون في الفصول الافتراضية من خلال شخصيات رمزية (أفاتار) يظهرون جرأة كبرى على التعلم، بل يتفاعلون مع العملية التعليمية بشكل أوسع مما يكسبهم القدر الأكبر من الخبرات والمهارات، ويعود ذلك إلى غياب الرهبة من الخطأ والخجل أو خوف استهزاء الأصدقاء منهم أو حتى الخوف من أن يأخذ المعلم عنه فكرة البلادة أو قلة النباهة، ومرد ذلك كله أن الطالب لا يظهر في الفصل بشخصيته الحقيقية، فهو متخف في شخصيته الرمزية، هذه نتائج استطلاع رأي أجرته جامعة ماريلاند حديثا، فقد اقترح القائمون على هذا الاستطلاع توفير هذه التكنولوجيا في أسرع وقت، إضافة إلى توفير روابط التدريب الذاتي أو شبهه، حيث يقوم المعلمون المتمكنون بالتدريب والإشراف على المبتدئين في هذا المجال بغية الوصول إلى تعليم أكثر جدوى وإلى طلاب يكتسبون علما ولا يخسرون شخصيتهم واعتدادهم بذواتهم.
التحدي الحقيقي لميتافيرس
إن هذا العالم الفريد من نوعه البديع في مساهمته يعد نموذجا من التحدي والتطور الذي غيّر الحياة عن بكرة أبيها، فقد دخل كل مجال واشترك في كل فن تسهيلا وتيسيرا وتسريعا، لك أن تتخيل من يريد السفر على الدواب لمجرد أنها كانت في القدم أو عند أسلافنا، ما لكم كيف تحكمون؟!
إن التحدي الأكبر الذي يواجه ميتافيرس هو جهل القائمين على العملية التعليمية به أو تجاهه، والمبرر جاهز وهو أنه يقدم المعلومة دون جهد. ومعلوم أن ما أخذ بسهولة فُقد بسهولة، وأنه يساعد على الكسل، أليس الوصول إلى عالم ميتافيرس بحد ذاته جهدا جهيدا؟! فاليوم يوشك أن تصبح الراحة شعار كل عمل وغايته، وما ذاك بالأمر المعيب.
مناط الأمر صحة المعلومة والمحافظة عليها وصولا إلى التعليم بلا مخاطر، كما أطلقت عليه الخبيرة في هذا المجال سماء عبد الغني، حيث البيئة التعليمية الافتراضية المتعددة الوسائل والأدوات والأساليب، فميتافيرس يحاكي واقعا حقيقيا ويجري الطالب تجربة كأنه في المختبر متفاعلا مع أصدقائه ومعلميه، متجولا بين الفضاء الفسيح وأجرامه وكواكبه، إن أراد أن يكون رائد فضاء، أما إن أراد أن يكون غواصا في أعماق البحار وعوالم المحيطات فذاك له أيضا دون أن يخشى غرقا أو دركا.
خلاصة القول
التاريخ والخبرة يظهران أن التكنولوجيا داعم للنشاط البشري وليست منافسا له، والتعامل الناجع معها هو تطويع ميتافيرس ليخدم الأهداف الأكاديمية والبحثية، إضافة إلى رسم الأهداف الأكاديمية والبحثية وفق خطة وإستراتيجية تستفيد منه وتتجارى معه ولا تتبارى.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.