شعار قسم مدونات

قبسات على طريق الكاتب (3)

جودة النص تتحقق باجتماع روعة المعنى مع دقة اللفظ وقوة الحبكة وجمال الصورة وإثارة ما يناسب من مشاعر وعواطف وأفكار (مواقع التواصل الاجتماعي)

قلنا ونعيد.. إن الكتابة عالم جميل يغري كثيرين منا باقتحامه، لكن الوصول إليه بنجاح يتطلب أن يستضيء السالك إليه بقبسات تكشف له في سيره معالم الطريق.

في مقالتين سابقتين بسطنا الكلام في فوائد ثبت أثرها وجدواها في ترويض الكلمة وإسالة القلم؛ وفي مقالتنا الثالثة هذه نستكمل عرض ما لدينا من فوائد.

ضع صياغتك الأولى للنص

إذا تكاملت في مخيلة الكاتب ملامح موضوع تام الأركان، فهذا يعني إمكانية بدء العمل على إخراج مادته إلى النور في نص مكتوب. والموضوع يقوم على جملة من الفِكَر المترابطة، ينثرها الكاتب على حديقة النص، لتشكّل بمجموعها المعنى الذي يريد تجسيده، والرسالة التي يسعى لإيصالها؛ ولكي تتحقق الغاية ينبغي أن تأتي الفِكَر بسيرها منسجمة متناسقة، تمهد فيها السابقة للتالية، وتؤكد المتأخرة المتقدمة، وتتوج النهاية إرهاصات البداية…

ويناسب في بسط الكلام تجنب التطويل الممل والاختزال المخل، وترك التمادي غير المبرر في ذكر معارف وتفاصيل لا يجهلها الآخرون، والاهتمام بدلا من ذلك بإيجاد علاقة تفاعلية مع القارئ، تحفز فكره، وتثير تأملاته، وتُشعره أنه شريك في التقاط الإشارات اللافتة، والإيحاءات الغنية، التي ستعطينا فهما أعمق وأوسع لحقائق الأشياء، وتحدث تغييرا إيجابيا في رؤانا وقناعاتنا وسلوكنا.

إعلان

وحتى يضمن الكاتب حضورا عاليا للمتلقي سيكون مطالبا بأن يُحسن بشكل جيد استخدام وسائل التشويق التي تبدأ مع اختياره لكلماته الأولى، التي ينبغي أن تغري القارئ بالالتفات لها، لتسلمه بدورها إلى الفِكَر متتابعة، تشده كل واحدة إلى التي تليها بما فيها من قوة وارتباط، وجاذبية وجمال.

ويبقى القول إن جودة النص تتحقق باجتماع روعة المعنى مع دقة اللفظ، وقوة الحبكة، وجمال الصورة، وإثارة ما يناسب من مشاعر وعواطف وفكر؛ والقصور في واحد من هذه العناصر يسيء إلى البناء الكلي للنص، فاحرص على ألا يكون ذلك.

خذ من مدرسة زهير

كثيرا ما نرى الفنان يرسم لوحته، وكلما أغرقته التفاصيل وجد نفسه مدفوعا لترك مسافة يعيد منها النظر عن بعد إلى ما أنتجته يداه، وقد يترك اللوحة لأيام ثم يعود إليها، فيجد أنها ما زالت تحتاج إلى لمسة هنا وإضافة هناك… وللكاتب مع ما يكتب حال شبيهة بتلك.

وكأن زهيرا بن أبي سلمى الشاعر المشهور قد أدرك هذه الحاجة فعمل على تلبيتها، فقد رُوي أنه كان ينظم القصيدة في شهر وينقحها ويهذبها في سنة ثم يعرضها على الخواص، ثم يذيعها بعد ذلك؛ ولاستغراقه في تنقيحها وتهذيبها حولا كاملا -والحول هو السنة- كانت قصائده تسمى الحوليات.

والدعوة للأخذ من مدرسة زهير لا تعني بالتأكيد أن نمضي حولا كاملا في تنقيح ما كتبناه، فهذا شأن زهير، ولكن المقصود أن نترك النص بعد كتابته الأولى فترة مناسبة يمر فيها بحالة اختمار في الذهن، لنعود بعدها إليه.. فالحقيقة أننا كثيرا ما نكتب المقالة، ونشعر أنه ما زالت فيها أشياء لم تأخذ بعدُ الشكل الذي نرتاح إليه، وقد نشعر بوجود الخلل من غير أن نقدر على تحديد دقيق لشكله ومكانه، فإذا تركناها حتى حين ثم عدنا لقراءتها من جديد، وجدنا الصورة صارت أوضح، وتشكلت لدينا رؤية أكثر دقة لإجراء ما يناسب من إضافة أو حذف أو تعديل.

إعلان

وربما يفيد بعد ذلك عرض ما كُتب على بعض المقربين، لتلمُّس وقْعه في نفوسهم، والاسترشاد بما يناسب من ملاحظات وتعليقات يبدونها، قد تستدعي تعديلا ما قبل النشر.

وإذا سلكت كلمات الكاتب هذا المسار صارت كثمرة صفا ماؤها، ورقَّ هواؤها، ومرت بمراحل نضوجها الطبيعية، فوصلت إلى باغيها عظيمة النفع، طيبة المذاق.

شق الطريق إلى المنابر

بعد أن يدوّن الكلمةَ صاحبها، تبدأ رحلة انتقالها إلى القلب الذي يعيها، والأذن التي تتلقفها، والفهم الذي يدرك معناها ومرادها. وهذا يعني أنه سيكون قد سبق ذلك صقل الكاتب لموهبته وإمكاناته، إلى درجة يستطيع معها أن يضمن لنفسه الحد الأدنى من القبول لدى شريحة جيدة من القراء.

والحقيقة أن عوائق الوصول لا تزول بمجرد امتلاكك لناصية الكتابة، وذلك أن الناس تنساق أسرع للقراءة لأصحاب الأسماء المعروفة، والألقاب المشهورة، فإذا ما دخل الميدان حديث عهد به، كان عليه أن يكابد ويصبر زمنا، يبذل فيه عنايته للفت الأنظار إليه، حتى تواتيه فرصة تقديم نفسه للآخرين، وتنال كتاباته القبول، وتتحقق له بوادر الشهرة.

ومهما سُدت إلى المنابر السُبُل ستجد اليوم منبرا متاحا للجميع، توفره وسائل التواصل الاجتماعي من خلال الحسابات الشخصية على الفيسبوك وأشباهه، على أن تكون تلك بداية يسعى للانتقال بعدها إلى قنوات أوسع، توصل كلماته إلى ميادين أرحب ويتلقاها حشد أكبر من الناس. ووصولك إلى المنبر لا يعني نهاية الرحلة، فتفاعلك ينبغي أن يكون مستمرا مع القراء، وكذلك مع الآخرين من أرباب المنابر، وأصحاب القلم، وفي هذا التفاعل منح وأخذ، وتلمس لمواطن التألق، وكذا مواطن الإخفاق، ومعه يستمر صقل الموهبة، وتحسين الأداء.

ومتابعة ردود الأفعال المختلفة على كتاباتك بوصلة تشير لك إلى جملة ما يحسن مراعاته في اختيار الموضوعات والمعاني، وانتقاء الفكَر والصور، وتحديد الطرق والأساليب المناسبة، ليبقى لكلماتك وقعها عند القراء، ولتترسخ مكانتك في نفوسهم.

إعلان

كان ما قدمناه قبسات، يؤمل أن تعطي السائرين على طريق الكتابة توجيهات نافعة.. ولا يعني ذلك أن المقالات الثلاث قد أحصت كل ما يمكن أن يُقال في هذا الشأن، وإنما هي خلاصة تجربة لإنسان قطع شوطا على هذا الطريق، وللآخرين أيضا تجاربهم ورؤاهم، ومن تلاقي التجارب والرؤى تستكمل الصورة أجزاءها.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان