شعار قسم مدونات

أوكرانيا وغرب أفريقيا ومآلات تركة العجوز

تداعيات مخيفة ومعان جديدة للاستقلال.. هذا ما خلفته سنة ونصف من حرب روسيا على أوكرانيا
الحرب فرصة لبايدن ليعيد أوروبا لهيمنة الولايات المتحدة والتي فرضتها بعد الحرب العالمية الثانية بمشروع مرشال واتفاق بريتون وودز (الجزيرة)

يقول الكاتب الصيني صن تزو في كتابه الأشهر في الإستراتيجية "فن الحرب": "الفن الأعلى للحرب هو إخضاع العدو دون قتال".

في مقال "أوكرانيا حرب الفرص"، وتحديدا في الجزء الثاني من سلسلة المقال، تحدثنا عن أن الحرب هي فرصة لبايدن كي يعيد أوروبا لحظيرة هيمنة الولايات المتحدة التي فرضتها بعد الحرب العالمية الثانية بمشروع مرشال واتفاق بريتون وودز، والتي كان من شأنها إحكام أميركا سيطرتها على أوروبا، ثم جددت حيوية هذه السيطرة بالحرب الباردة، لتظل أوروبا الغربية خاضعة لتلك الهيمنة، قبل أن تقرر واشنطن توسيع نفوذها إلى شرق أوروبا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي بإشعال الثورات البرتقالية في حينها، لتصبح هذه الدول التي انضمت لأخواتها في الغرب عبئا على الدول التي بالكاد تعافت من أثار "مارشال" بعد أن دُفعت لضم أغلب بلدان الكتلة الشرقية للاتحاد الأوروبي خشية قضم الوحش الروسي أراضيها فيصبحون بذلك في مواجهة صريحة مع موسكو.

وهذا ما خطط له العم سام لضرب عصفورين بحجر واحد، أولا جر روسيا، التي تحاول استدعاء الماضي بحلم عودة الإمبراطورية الروسية، لحرب تنهكها فيها، وتأديب أوروبا التي حاولت الانعتاق من الهيمنة الأميركية بعد تحرشات ترامب بها بصفاقاته وجرح كبرياء الإمبراطوريات العظيمة الكامنة في نفسية دول غرب أوروبا.

وبالمناسبة، فإن هذا الكبرياء يمثل حالة إنكار للواقع التي تعيشها هذه البلدان، والذي دفع كلا من بريطانيا وفرنسا الخاسرتين اقتصاديا وبشريا في الحرب العالمية الأولى إلى دخول الحرب العالمية الثانية.

على الجانب الآخر، نجد أن أميركا كانت تقرأ مشهد الحرب العالمية بشكل أكثر واقعية، إذ رأت أن "الفارقة" التاريخية ستشكل عالما جديدا يمكّنها من أن تكون قطبا فيه وترث الأقطاب القديمة، والسبيل الوحيد لذلك والسيطرة على الشؤون العالمية هو الحد من الدور الذي تلعبه أوروبا على الساحة الدولية، من ثم تقليص الدور الجيوسياسي لأوروبا وتقسيمها دويلات، وهو ما أحدثته معاهدة فرساي واتفاقيات سانت جرمان وسيفر.

أطاح كبار الضباط في الغابون بالرئيس علي بونغو، الذي يحكم البلاد منذ مدة طويلة، في أعقاب انتخابات مثيرة للجدل. كانت الإطاحة بالرئيس الغابوني بمثابة الانقلاب السابع في المنطقة في غضون ثلاث سنوات، بما في ذلك الانقلابات في مالي وبوركينا فاسو وغينيا، لقد أدت موجة الانقلابات العسكرية إلى شعور بأن شكلاً من أشكال العدوى السياسية يهدد بزعزعة استقرار القارة السمراء، وغربها تحديدا.

هذه الظاهرة تدفعنا للشك في أن يدًا خفية ما وراء هذه الانقلابات، ومع ظهور فاغنر في المنطقة خلال الأعوام الأخيرة، هناك من يحاول إلصاق التهمة بروسيا، وإن كانت منتفعة، فلا يمكن تجاوزها من المعادلة، لكن تاريخ واشنطن الزاخر بالتخطيط للانقلابات يجعلها بسوابقها في إيران "مصدق" وأميركا الجنوبية، وشبهات ترقى إلى حد الأدلة في تركيا "أردوغان"، كلها أحداث تجعل من أميركا متهما في إحداث تلك الانقلابات في غرب أفريقيا، والسبب هو تأديب الديك الفرنسي الحالم بعودة مجده الإمبراطوري، ومحاولة لكي ترث تركتها الضخمة في هذه المنطقة الغنية باليورانيوم والنفط والغاز والذهب والألماس والزنك والبلاديوم والنحاس والحديد والفضة والكوبالت، معادن يسيل لها اللعاب.

ومع الأزمة النفطية التي يعيشها العالم على خلفية العقوبات الغربية على النفط الروسي، بات خط أنابيب "إيه كيه كيه" (AKK) الناقل للغاز النيجيري عبر النيجر والجزائر، لاسيما وأن المحتل التاريخي والوصي الحالي، فرنسا، أضعف من إيقاف التنين الصيني الداخل بقوة في هذه البقعة المهمة من العالم، التي ستكون محل صراع الحرب الكونية القادمة، إذا ما اندلعت لا قدر الله، والتي تظهر إرهاصاتها منذ سنوات مضت مع إظهار تنظيم الدولة الإسلامية في ليبيا، وإفشال المخطط على يد الثوار، لتتحول الخطة إلى الانقلابات في الغرب الأفريقي، مع بقاء هدف فتح ممر رخو في الشمال ترشح له الجزائر وإن كانت ليبيا التي تشهد حالة سيولة أقرب.

لا تنشغل أميركا كثيرا بالدب الروسي ومحاولات إيجاد موطئ قدم في هذه المساحة الجغرافية البكر والمهمة من العالم، حتى مع عمليات الحلب المستمرة من فرنسا لها على مدى أكثر من مئتي عام، إذ إن روسيا لا تملك المقومات الكافية لوجودها في أكثر من بقعة، ولا تجد من الإمكانيات ما يجعلها تستمر، ولعل عملية انقلاب يفغيني بريغوجين على معلمه في الكرملين قبل كان محاولة أميركية لتقليم حوافر الدب الروسي، قبل أن ينقلب الدب على صاحبه ويسقط طائرته للتخلص من ذراع أصابه السرطان ويمكن أن يسري في جسد الكيان العسكري الضارب لموسكو خارج أراضيها وخارج مسؤوليتها القانونية، كما أن إطالة أمد الحرب في أوكرانيا هو أحد التكتيكات التي أوصى بها صن تزو الإدارة الأميركية لإنهاك القيصر بوتين ورده إلى حيث يجب أن يكون.

خروجا عن الصمت أعربت الدبلوماسية والعسكرية الفرنسية عن انزعاجهما من الموقف الأميركي في غرب أفريقيا، وتحديدا من الانقلاب في النيجر، انزعاج أفادت به الجريدة الأسبوعية الفرنسية "لوكانار أونشيني"، مستندة في إفادتها على مصادر عسكرية ودبلوماسية دون ذكرها بالاسم، لما في ذلك من حرج لهم أمام مرجعيتهم الأميركية، لكن خروجهم عن الصمت بعد ما يقارب الثلاث سنوات ذاقوا فيها مرارة جرح الكبرياء في مالي عسكريا ثم فيها سياسيا، تلتها بوركينا فاسو ثم النيجر ثم الآن الغابون، جعلت وجههم للحائط، ولا بد على الأقل الكلام إذ لم يكن للفعل محل، إذ بات من الواضح للعيان أن تركتهم تقسم وتورث أمام أعينهم وهم أحياء، وكأن التاريخ يعيد نفسه ليتجرعوا من الكأس نفسه الذي شرب منه السلطان عبد الحميد، وأظن أن من شارك في تحضير الكأس لعبد الحميد سيأتي دوره ولو بعد حين.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان