الحياة الحديثة مصطلح يتردد كثيرا باستمرار في الأوساط العامة، إنّها غير الحياة الغابرة التي كان نمطها وأشكالها سائدا في زمن الأجداد أو قبل الأجداد، لكنّها لا تتوقف عند حدود المناظر والمباني والملابس ووسائل النقل الحديثة، وإنما تصل إلى مجال السلوك والتغير النفسي.
أحد مدراء غوغل عند افتتاح المكتب في جنوب شرق آسيا قال للحاضرين: عندما تتعاملون مع الإنترنت فلا شيء في حياتكم يبقى كما كان، كل شيء سيتغير ولن تستطيعوا العودة إلى الوراء، فتغير طريقة الحياة تأتي معه تغيرات متنوعة في التواصل الاجتماعي والسلوك والتصرفات الفردية، وتقنيات الاتصال أو التفاعل بين الفرد والمجتمع بواسطتها تأتي في المقدمة، وهي المعروفة بالتكنولوجيا الحديثة وما توفره من سهولة في الاتصال وكذلك ما تحتويه من مخاطر، ويحتل الاعلام الاجتماعي الصدارة.
المقصود بالتعري هو تعري شخصية الإنسان ورفع الغطاء عما هو مستور أو مختبئ في ذاته، أو فسح المجال لبروز الصفات النفسية السيئة عن طيب خاطر
المختصون كان تركيزهم على جانب المراقبة والتجسس من خلال هذه التقنيات الحديثة التي تغوي الناس لاستخدامها، والعديد من المنظمات الاجتماعية اقتصر تركيزها على جانب التدمير الأسري، أو على كيفية استعمالها إيجابيا، لكن القليل من الناس أعطوا جانبا مهما آخر من الاهتمام، وهو ما يسمى بـ"التعري"، وليس القصد هو التعري الجسماني وإن كان الكثير يتعرون جسميا للفت الأنظار وجلب الاهتمام، إنما المقصود بالتعري هو تعري شخصية الإنسان ورفع الغطاء عما هو مستور أو مختبئ في ذاته، أو فسح المجال لبروز الصفات النفسية السيئة عن طيب خاطر.
وهذا التعري هو ثمرة للثنائية الأخلاقية المتضادة في نطاق الشخصية الواحدة، وهذا الأخطر، فقد يعطي وجهين للشخص الواحد، واحد منه إلكتروني والثاني هو الحقيقي، الإلكتروني هو المواجه للشاشة، والحقيقي هو المواجه للعالم المحسوس، وما يخبئه عند مواجهة العالم المحسوس يظهره ويكشف عنه الإلكتروني ككشف وجهه أمام الأداة الإلكترونية، فكل صفاته السيئة المستورة تتجسد على وجهه العاري، فيقرأ الناس تلك الصفات ككتاب مفتوحة صفحاته، من على صفحات وجهه، فأسراره مكشوفة كوجه كتاب.
عندما يتعامل هذا النوع من المستخدم مع الناس من الأصدقاء والجموع مباشرة في عالم الواقع يكون محترما مهذبا، يتصرف تصرفا أنيقا يراعي الإتيكيت، وبمجرد وصوله إلى زاوية الغرفة حيث مكتبه وجهازه الإلكتروني تتحرك داخله الخصال النفسية السيئة التي منّ الله سبحانه عليه بالستر عليها، فيتحول إلى شخص فظ بعد أن كان وديعا، ويكسر الحدود بعد أن كان لبقا، ويشتم ويتعدى بعد أن كان مهذبا، ويسخر بعد أن كان محترما، ويهين بعد أن كان حريصا على عدم الإيذاء، كل هذا أمام الشاشة عبر المنشورات الخاصة أو التعليقات، أو الوصول إلى البهتان والافتراء عبر نشر فيديوهات مفبركة لأغراض سياسية، أو بحثا عن اللذة الوقتية من عدد التصفيقات التي يراها ولا يسمع صوتها. فهو شخصيتان إذن، مؤدب أمام العام، وغير مؤدب أمام الشاشة.
إن النظام الأخلاقي لا يغيب في أي لحظة، ولا يتوقف عن العمل في أي مكان وتحت أي ظرف، لا يوجد موقع أو موقف يكون المرء فيه خاليا أو متحررا من القيم الأخلاقية، ولهذا مدح الله سبحانه الذين يخشون ربهم بالغيب ووعدهم بأجر كبير، حيث يمكن الاختباء من الأعين الباصرة، لكن الحساب يكون وقت الانزواء لعين الله المراقبة.
إن عمل وسائل التواصل الاجتماعي مع الإنسان هو كعمل البيئة مع الفيروس، فكما أن البيئة الرطبة تهيئ الجو الطبيعي المناسب لحياة الفيروس وتكاثره، فإن تلك الوسائل هيأت الأجواء للفيروسات السلوكية النفسية التي تتناسب معها لتنمو وتجد طريقها للظهور
هذا الشعور بالتحرر أو الإحساس بالانعتاق من الحساب والكتاب والعقاب، وهذا الانحدار الأخلاقي الذي لم يُسجَّل النجاح الكامل في كبحه حتى في التربية الدينية، يجابه بسؤال ملح من المهتمين المحللين: هل وسائل التواصل الاجتماعي هي السبب الكامن خلف هذا السلوك الالكتروني، أم هي عاكسة له فقط؟
في الحقيقة، إن العلاقة تدور بين التأثير والتأثر، بمعنى نسبية المسؤولية بين التكنولوجيا ومستخدمها، لكن بما أن الإنسان من قدره أن يكون مسؤولا عن تصرفاته، فإن العديد من المختصين حكموا أن التكنولوجيا هي عاكسة لما يوجد داخل ذواتنا، وإنها هيأت الجو المناسب لتدفق الحقائق المخبوءة داخل نفوسنا، هذا ما يقوله جوش روز: "إن الإنترنت لا يسرق منا إنسانيتنا، ولا يلج إلى داخلنا، وإنما هو انعكاس لما يوجد داخل ذواتنا".
وللرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما تفسير مفيد، يقول: "إن عمل وسائل التواصل الاجتماعي مع الإنسان هو كعمل البيئة مع الفيروس، فكما أن البيئة الرطبة تهيئ الجو الطبيعي المناسب لحياة الفيروس وتكاثره، فإن تلك الوسائل هيأت الأجواء للفيروسات السلوكية النفسية التي تتناسب معها لتنمو وتجد طريقها للظهور"، مما يعني أن فيسبوك وغيره أظهر المكنون والنفسية الحقيقية للفرد.
وقد جاء الخداع من جانب آخر، وهو محاولة استعمال تلك الوسائل استعمالا لغرض وغاية جيدة، وهذا تفكير محمود، لكن أثناء العمل تظهر الخصال المرفوضة تربويا، لأن المستخدم لا يصل إلى تلك الغاية المحمودة من منظوره إلا بعد أن يتجاوز الأدب، ويخرج عن دائرة التهذيب السلوكي، حتى إنّ بعض العاملين لأغراض سياسية من أهل الدين يتجاوزون المبادئ الشرعية لأصول النظام الاجتماعي، ويتحدثون من دون مراعاة أدب القول، ويكتبون من دون حساب قيمة الكلمة، وأحيانا يكون التجاوز والاجتراء في القول حتى على الأصدقاء والإخوة الحقيقيين، وقد يمس الكبار في العلم والكبار في العمر والكبار في المقام.
إن الكراهية إحدى ثمار هذا السلوك نتيجة الإحساس بانعدام المسؤولية عند استعمال الوسائل الإلكترونية، فكل ما ذكرناه من التجاوزات عبر المنشورات المتوهمة بأنها مجانية، توجه إلى أشخاص وكيانات ومجموعات ومجتمعات دينية أو سياسية، وما من ريب في أنها تفعل الأفاعيل في إثارة الحقد والبغض المضاد، سواء على المستوى الشخصي أو الجماعي، وهنا وفي سبيل التخلص من تلك الآفات، فإن الواجب يقع على عاتق أهل التربية والتعليم، وعلماء الاجتماع، وقادة الأحزاب، والكتاب والمثقفين، شرحا وتوضيحا، ووضعا لسدود منيعة لعدم الانجرار مع المراهقين وراء الإغواء واللذة المؤقتة من الشعور بالحرية الزائفة، ونشوة التعدي على كرامة الآخرين وكسر هيبتهم تخيلا بأن كل شيء إلكتروني مباح.. وما الله بغافل عما يعملون.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.