شعار قسم مدونات

مصير تركة القارة العجوز إذا ما آلت لأميركا

نشرت وزارة الدفاع مجموعة صور، وشريط فيديو لعملية نشر قوات أمريكية في منطقة عمليات القيادة المركزية على خلفية "تزايد مستوى التهديد على الموظفين والمنشآت الأمريكية" بالعراق، حسبما ذكرت خدمة بث الأخبار المتعلقة بالجيش الأمريكي dvids.1
إذا كانت أميركا تجيد صناعة الفتن فقد أثبتت التجارب أنها فاشلة في إدارتها (مواقع التواصل الاجتماعي)

في مقال "أوكرانيا وغرب أفريقيا ومآلات تركة العجوز" تحدثنا عن إستراتيجية أميركا التي فككت أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، ثم ورطتها في مشروع مارشال لتسيطر عليها حتى باتت تحتل إرادتها السياسية كما احتلتها ثقافيا.

وبعد محاولة أوروبا رفع رأسها عقب حالة الإذلال التي وضعها فيها الرئيس دونالد ترامب قررت الدولة العميقة في أميركا تأديبها في أوكرانيا وإرهاق مواردها وإنهاك قدراتها الاقتصادية بإنفاق عسكري غير محسوب وبعقوبات على روسيا ارتدت في وجهها نقصا في واردات النفط وضعفا بالاقتصادات.

ووصلنا إلى أن تعاطي أميركا مع الانقلابات في غرب أفريقيا من ناحية، وتصريحات بعض قادة الغرب الأفريقي من ناحية أخرى -ومنهم علي بنجو آخر المنقلب عليهم- بأن شركاءهم تعددوا ومنهم أميركا ولم تعد فرنسا هي شريكهم الوحيد يجعلنا نصل إلى نتيجة، وهي أن واشنطن قررت أن ترث تركة القارة العجوز في أفريقيا الغنية بالموارد الطبيعية.

إن السياسة الأميركية الإمبريالية هي وريثة الإمبراطورية البريطانية مضافا إليها الرأسمالية المتوحشة التي تحكم العقلية السياسية الأميركية، فلا يخفى على أحد أن شركات النفط والسلاح وجماعات الضغط المالية في وول ستريت توجه صانع القرار الأميركي، بل ومتخذه في البيت الأبيض، وأن السياسيين من تشريعيين وتنفيذيين ما هم إلا جهات مساعدة لتمرير إستراتيجيات "الأخوات الكبار" حتى وصل الأمر إلى أن تُحرك الجيوش للسيطرة على الدول الصغيرة لصالح الشركات الأميركية العملاقة، خاصة النفطية، ولعل العراق وكذبة تبرير احتلاله أكبر شاهد على ذلك، فالرئيس بوش الابن خريج جامعة ييل ما هو إلا سليل عائلة تملك شركات تعمل في صناعة النفط وتتربح منه.

وما حرب أوكرانيا إلا فرصة كما كل الفرص التي صنعتها المخابرات الأميركية للشركات الكبرى في مجالات السلاح والنفط والإعمار والتكنولوجيا للترويج وكسب مزيد من المليارات تشارك بجزء منها مع الدولة من خلال ضرائب تدفعها تعود على شكل خدمات تقدمها الحكومة للمواطن، والذي يعطي صوته لمن يقدم له رعاية صحية أفضل أو يخفض له شريحة الضرائب أو يمنحه معاشا تقاعديا أفضل أو معاش بطالة أطول.

إذن، هي خدمات متبادلة يقدمها كل طرف إلى الآخر في إطار قاعدة "الربح للجميع"، وحال أوكرانيا مثل العراق وليبيا وغيرهما من البلدان التي نفذت فيها الخطة نفسها، لكن.. هل نجحت أميركا في كل البلاد التي نفذت فيها هذه الخطة؟

الإجابة عند جون مولر العالم السياسي الأميركي في جامعة أوهايو، والذي يرى القصور في منهجية التفكير الإستراتيجي للولايات المتحدة، وضرب بحرب العراق مثلا للدلالة على وجهة نظره، إذ يرى أن قصور منهجية واشنطن تمثل أحدها وأهمها في عدم حساب رد فعل دول المنطقة من الغزو، بل افترضت عدم وجود ردة فعل لها.

وكلام مولر يمكن إسقاطه على الموقف الأميركي من سوريا وكذلك في ليبيا والآن أوكرانيا وغرب أفريقيا، إذ إن الفردانية التي تعيشها أميركا ونظرتها الضيقة والمتمثلة في إرضاء الشركات الكبرى المهيمنة على منظومة الحكم والطمع المسيطر على الطرفين جعلها تدخل هذه المغامرات دون حساب المآلات.

بعد أن نهبت ما استطاعت له سبيلا من النفط وابتزت باقي دول الخليج بشراء أسلحة بمليارات الدولارات لم ولن تستخدم ولا تزال تم تسليم العراق لإيران وتُرك دولة مقطعة الأوصال تحكمها مليشيات تهدد مصالحها بعد أن سمحت بتكوينها ودربتها فتعدت الخطوط الحمراء، والآن تبحث عن رادع يعيد إيران ومليشياتها إلى بيت الطاعة ولا تستطيع.

فإذا كانت أميركا تجيد صناعة الفتن فقد أثبتت التجارب أنها فاشلة في إدارتها، وذلك لأن الهدف المحدود لخططها أكبر من الحسابات الإستراتيجية بقياس رد فعل الفاعلين في المشهد.

ولعل نفسك عزيزي القارئ تحدثك بأن تكتفي بهذا القدر من الهراء الذي يسرده الكاتب، لكن اسمح لي أن أقول لك إنك تحت ضغط الهالة الإعلامية التي صنعتها أميركا لنفسها، لكن لو عدت إلى المنطق فستعرف أن صانع القرار ومتخذه هو بشر يصيب ويخطئ، والأمر يخضع لحسابات يمكن أن تكون غير دقيقة ويؤثر فيها في النهاية العنصر البشري واندفاعاته وتغذيته المعرفية وأطماعه البشرية، مع الوضع في الاعتبار أن من يعمل في السياسة لا تراوده فكرة الاعتزال.

غرب أفريقيا الغنية بالنفط هي مطمع شركات النفط الأميركية الآن، ولماذا الآن؟ لأن فرنسا الوصية التاريخية على ثروات هذه البقعة الجغرافية الغنية تعيش أضعف حالاتها، إذ لم يكن عبثا أن يصفع رئيسها ثلاث مرات خلال عامين من العامة وعلى الملء، إنما هي رسالة مفادها أن الحنجوري متلبس شخصية نابليون ما هو إلا ممثل هزلي كما زميله في كييف، لهما أدوار ثانوية يلعبانها في مسرحية تقديم ثروات العالم للقطب الأوحد، يأكل بأريحية حتى ولو من أطباقهم الخاصة، لذا فإن غرب أفريقيا هي الطبق الذي قررت أميركا بشركاتها أن تأكل منه، لكن هل سيقبل ماكرون ويخضع بهذه السهولة، بالقطع لا، وهذا ما تريده باقي لوبيات السلاح والإعمار والتكنولوجيا في أميركا، فالكل مستعد لأخذ نصيبه بعد اندلاع الحرب التي ستخوضها فرنسا عبر حكام الساحل والصحراء الذين لا يزالون مخلصين لها في نيجيريا وغانا وتشاد، لذا لا يستبعد تحريكهم بقرار منفرد من فرنسا، قبل أن تسقطهم القوة التي أسقطت جيرانهم.

لكن الأزمة في مآلات القرار الأميركي محدود الرؤية في قضم ما يمكن قضمه من كعكة الغرب الأفريقي، حيث إن الفوضى تنتظر هذه المنطقة، مما يعني إمكانية تسرب مواد لم تكن لتسرب لمصلحة بعض الدول التي تستفيد من هذه الفوضى، وهو ما يعني أن قوى جديدة ستدخل في مساحات كانت محرومة منها من قبل، وهنا لا أعني الصين الموجودة بالفعل ولا روسيا التي تحاول وتمنعها إمكانياتها، ولكني أقصد دولا وسيطة تعمل على أن تزيد مساحة نفوذها وقوتها لتزاحم الكبار النوويين وأصحاب الاقتصادات الكبيرة، مع تزايد الجماعات المسلحة التي تستفيد من رخاوة الأوضاع في البلاد لتنمي مواردها وتقوي عودها، مما يعني مزيدا الهجرة غير النظامية باتجاه الشمال في أوروبا لتزيد أزمة أوروبا المنهكة من أزمة أوكرانيا، وهنا نستحضر كلمات العبقري صن تزو في كتابه "فن الحرب" "فقط عندما تعرف كل تفاصيل حالة التضاريس يمكنك المناورة والقتال".

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان