شعار قسم مدونات

قبسات على طريق الكاتب (1)

اختر وقتا كل أسبوع للجلوس والكتابة عمّا تملكه من نِعَم.
بين أن يكتب الإنسان لنفسه وأن يكتب للعموم هناك حالات توسط يتوجه فيها الكاتب إلى المهتمين بشأن معيّن (شترستوك)

الكتابة عالم جميل يغري كثيرين منا باقتحامه، لكن الوصول إليه بنجاح يتطلب أن يستضيء السالك إليه بقبسات تكشف له في سيره معالم الطريق.

بعض هذه القبسات، أو جُلُّها، خلاصة تجارب سابقة أثمرت نُضجا في الموهبة، وتمكّنا من قِياد الكلمة، وثبات خَطْو على الطريق، وجميلٌ في هذا الشأن أن تكون ثمرات تجارب بعضنا متاحة لبعض.

هذه مقالة أولى، يُؤمل أن تتبعها بضع أخوات، أسعى لأقدم فيها وفيهنَّ مجموعة فوائد، لمست أثرها وجدواها في ترويض الكلمة وإسالة القلم، لمن عزم السير إلى ميدان الكتابة، وفي مقالتنا الأولى لنا 3 محطات أُوَل.

التقليد في الغالب هو البداية التي ينطلق منها الراغب في الكتابة، لكن ذلك لا يعني البقاء عند تلك المرحلة وعدم مجاوزتها، إذ إن الممارسة الواعية لهذا الفعل تلفت الانتباه إلى مناحٍ جديدة يمكن سلوكها

كن قارئا لتصير كاتبا

كما هو الحال مع كل فن أو إبداع إنساني، لا يكون مقبولا أو مستساغا أن يدخل محراب أهل القلم إلا من عرف ماهية الكتابة وطبيعتها، وعاين صورها وألوانها، وتحسس أدواتها وأساليبها، والمسار الطبيعي الذي يتحقق به ذلك يكون بتعرف الطرق التي سلكها السابقون، والمحاولات التي باشروها، والتجارب التي خاضوها، حتى ارتقوا بفن الكتابة، وأوصلوه ووصلوا معه إلى المستوى الذي نراها ونراهم فيه.

فإن من يقرأ نماذج لما كتبه الآخرون يعرف المعاني والموضوعات التي عالجوها، والأساليب التي اتبعوها في طرح قضاياهم، والألفاظ التي جاؤوا بها لتتواءم مع المعاني، وهو سيستطلع الصور التي أبرزوها، والمشاعر التي أثاروها لتخدم إيصال فكرهم ورؤاهم للقارئ، ويتتبع أشكال النصوص التي جعلوها أطرا حاوية لذلك كله، وحينها ستنمو لديه القدرة على تقليد خطاهم ومحاكاتها، والنسج على منوال أساليبهم، لطرح موضوعات تشغله ويرغب في تقديمها للناس.

إعلان

والتقليد في الغالب هو البداية التي ينطلق منها الراغب في الكتابة، لكن ذلك لا يعني البقاء عند تلك المرحلة وعدم مجاوزتها، إذ إن الممارسة الواعية لهذا الفعل تلفت الانتباه إلى مناحٍ جديدة يمكن سلوكها، وخطىً إبداعية يُستطاع القيام بها، لتبدأ شيئا فشيئا مرحلة التفرد والتميز والسعي للوصول إلى رتبة كاتب حقيقي.

فإذا وصلت إلى تلك الثمرة فاحذر أن تترك القراءة، لأن موهبتك التي ارتقت بالقراءة يمكن أن تنتكس بتركها.

حاجة الكاتب إلى الكتابة لنفسه ربما تؤويه أحيانا إلى عالمه الخاص الذي قد يصعب على الآخرين فهمه أو التفاهم معه، وهنا سيضمن لنفسه إلى حد بعيد حرية التنقل في أجواء بعيدة لا يصل إليها إلا الذين يجارون قدرته على التحليق في عالم الكلمة المنطلقة دون قيود تكبلها

تحسس دوافعك للكتابة

ما الذي يدفعني للكتابة؟ وما الغاية التي أسعى للوصول إليها؟ تساؤل لا بد أن يمر بذهن من يمسك القلم ليبثه خواطره وفِكَره.

والواقع أننا نجد بيننا من يرى الكتابة حالة نشوة تداعب رأسه، وتدفعه في متاهات يتلذذ بالسير فيها، ومن يراها سبيل توعية ومادة ينبغي تطويعها لتصير زورق نجاة لنا في بحر يعج بأيديولوجيات ودعوات تحاول ابتلاعنا، ومن يراها سلم وصول إلى الشهرة أو المنصب أو الوظيفة، ومن يراها شيئا آخر غير هذا وذاك.

وتحديد الدافع للكتابة سيعني تحديد فئة القراء والمتلقين، وبالتالي اتخاذ التوجه السليم لانتقاء الموضوعات والفِكَر، وتحديد الأولويّات وجوانب الاهتمام، وتصور الأنسب بخصوص اللغة والأسلوب.

وحاجة الكاتب إلى الكتابة لنفسه ربما تؤويه أحيانا إلى عالمه الخاص الذي قد يصعب على الآخرين فهمه أو التفاهم معه، وهنا سيضمن لنفسه إلى حد بعيد حرية التنقل في أجواء بعيدة لا يصل إليها إلا الذين يجارون قدرته على التحليق في عالم الكلمة المنطلقة دون قيود تكبلها أو ضوابط تحدد مسارها.

لكن الكاتب نفسه لا غنى له مع ذلك عن الكتابة للآخرين ومن أجلهم، ليتحقق للكتابة نفعها العام وخيريتها، وهنا سيكون مطالبا بأن يعيش هموم الناس واهتماماتهم، ويقرأ خواطرهم وأفكارهم، ثم يجرد من نفسه شخصا آخر يضعه موضع المتلقي ليكتشف الوسيلة الأنسب لإقامة جسور التواصل معه، ومخاطبته بلغة يفهمها تتجنب التعقيد دون أن تصل إلى الابتذال.

إعلان

وبين أن يكتب الإنسان لنفسه وأن يكتب للعموم هناك حالات توسط، يتوجه فيها الكاتب إلى المهتمين بشأن معيّن، أو المختصين بفرع من فروع العلم أو العمل، وهنا أيضا لا بد أن يدور الكلام في أجواء القوم وقضاياهم ولغتهم ومصطلحاتهم.

إذا وجد أن فكرة كان قد أعدها لتكون ضمن النص لم تنسجم مع أخواتها فاستبعدَها، فلا يعني ذلك حذفها من المذكرة، لأنه قد يجدها لاحقا مناسبة لعنوان آخر سيكتب له

التقط شوارد الفِكَر

حياتنا سلسلة من الوقائع والأحداث والحكايا والمشاهدات، وتتابع عقولنا هذه الأشياء المتحركة على مسرح الحياة وتتفاعل معها، فينشأ من ذلك نشاط ذهني يستثير فكَرا ربما كانت لدينا في مرحلة جنينية، حتى نصل إلى لحظات نشعر فيها أن التأملات قد جسدت أمام وعينا كلمات نرغب في إسماعها للآخرين، أو فكَرا نريد إيصالها لهم، وهذه الكلمات والفكَر تأتي كانسجام مع الهواجس والاهتمامات التي تشغلنا، وكأنها كانت في مكمن تبحث عن طريق للخروج، ثم جاءها ما يحرضها فخرجت.

مثل هذه الخواطر قد تأتي خطفا، وفي كثير من الأحيان سرعان ما يعاود طيها النسيان إن لم نحفظها بقيد يبقيها قابلة لإعادة استدعائها من جديد عند الحاجة، وقيدها الأنسب هنا التدوين في مذكرة، إذ يبدو لي أن من يُعدُّ نفسه ليصير كاتبا لا بد له من التقاط هذه الفكَر في حينها كي لا تكون كطائر حط بين يديه فلم يكترث به فطار وابتعد، وأنَّى له بعد ذلك أن يعود.

ولا يضير أن تكون الفكرة أو الخاطرة لم تصل بعد إلى مرحلة الاكتمال ووضوح المعالم، فما على الكاتب حينها إلا أن يبادر إلى تسجيل بضع كلمات أو عبارات على المذكرة تشير إلى ما تبدّى من أطراف الفكرة، التي ستأخذ بهذه الطريقة حيّزا في ذهن الإنسان لتتابع نموها بوعي منه أو دون وعي، حتى يتحقق لها الاكتمال والنضوج. ومن خلال هذه الممارسة قد يتشكل كمٌّ وافر من شتات الخواطر، وسيجد صاحبها في وقت ما أنه صار لديه ما يكفي من الأجزاء لمادة يمكن أن يعيد ترتيبها وتنسيقها في نص يحمل عنوانا لقضية كانت تشغله.

إعلان

وإذا وجد أن فكرة كان قد أعدها لتكون ضمن النص لم تنسجم مع أخواتها فاستبعدَها، فلا يعني ذلك حذفها من المذكرة، لأنه قد يجدها لاحقا مناسبة لعنوان آخر سيكتب له.

تلك كانت وقفاتنا الأولى، ولنا من بعدها بإذن الله وقفات.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان