من أسوأ ما يميز عصر العولمة والتكنولوجيات الحديثة ما يمكن أن نصطلح على تسميته بظاهرة "الانتفاخ المعرفي" أو "التضخم المعرفي"، وهو مصطلح يشير إلى غلبة "المعرفة السطحية" وطغيان داء التعالم، في وقت تتراجع فيه "المعرفة التأصيلية" والتحقيق والرسوخ العلمي، مما أفضى بكثير من أبناء الجيل الرقمي إلى حالة من الوهم بمعرفة كل شيء، دون إدراك أي شيء.
الانتفاخ المعرفي هو توهم المعرفة دون التمكن من أدواتها ومنهجياتها ومقارباتها العلمية، أو هو تذوق للمعرفة يشعر صاحبه بنوع من النشوة والغرور، يجعلانه يعتقد أنه أهل لخوض غمار الجدل ومناطحة العلماء دون تأصيل معرفي دقيق، أو اتكاء على منهج علمي وثيق، وأمثال هؤلاء يكتفون من العلم بأوائله، ويأخذون من المعرفة بأطرافها، ولا يكابدون عناء التحقيق والتتبع، والتحري والاستشكال والتحليل والتفكيك والتركيب والاستنتاج وصولا إلى "معرفة رصينة مؤسسة".
المنتفخ يتلبس بلبوس العلماء وينزل في ثوب الكبرياء، ويلتصق بالأكابر وليس منهم، وينتسب إلى أهل الثقافة وهو في منآى عنهم
يقرأ عنوانا من هنا أو فقرة من هناك أو منشورا أو مقالا فيسبوكيا، أو تدوينة أو خاطرة عابرة، أو يكتفي بدراسته الجامعية، أو ينجز رسالة أو أطروحة طافحة بالنقولات والسرقات العلمية، فيعتقد أنه انخرط في سلك المثقفين! وصار على وعي كبير ودراية عميقة تؤهله للخوض في شتى المجالات، ومناقشة المستشكلات.. إنها معرفة تشبه كثيرا أكلة الوجبات السريعة.
وفي مقابل هذا الزبد الجارف تراجع التكوين المعرفي التأصيلي؛ أن يعكف الباحث على المراجع والمصادر والكتب والسلاسل العلمية بحثا وتنقيبا وتدقيقا، منهمكا في حفظ المتون والقواعد العلمية والنظريات التفسيرية، وما يتطلبه كل ذلك من مجالدة للصعاب، ومكابدة للأتعاب، وإدمان للسفر، وملازمة للسهر، ليدرك بعد كل هذا أن ما تجمع لديه من مخزون علمي سيبقى مفتقرا لما عند غيره من فهم ودراية، وما ناله من علم هو كالنقطة في اليم أمام مساحة جهله الواسعة، ويمثل التواضع لهؤلاء خير دثار يقيهم من لسعة الغرور، ويحميهم من مهلكة التعالم والثبور.
ويحضرني في هذا المقام ما قاله ابن مالك صاحب "ألفية النحو" التي فاقت منظومة ابن معطي الزواوي، ولكن ما منعه ذلك من نسبة الفضل لصاحبه الأول، والاعتراف له بالسبق المؤثل:
وتقتضي رضا بغير سخط.. فائقة ألفية ابن معطي
وهو بسبق حائز تفضيلا.. مستوجب ثنائي الجميلا
والله يقضي بهبات وافرة.. لي وله في درجات الآخرة
المنتفخ يميل إلى الطعن في النيات والحكم عليها من فلتات اللسان دون تثبت، لأنه في جفاء مستحكم مع عالم الأفكار والمطارحات البناءة
وفي خضم تشخيص الأعراض المرضية التي تنتاب "المنتفخ" بزيف العلم والتي تطبع نقاشاته ومهاتراته، يمكننا القول إن هذا الأخير تستحكم فيه العلل التالية:
- التعالم: فالمنتفخ يتلبس بلبوس العلماء وينزل في ثوب الكبرياء، ويلتصق بالأكابر وليس منهم، وينتسب إلى أهل الثقافة وهو في منأى عنهم.
- غوغائية المعرفة: فهو يجمع أخلاطا من المعارف المتنافرة المتناثرة التي لا يزمها ضابط منهجي، ولا بناء علمي مؤسس.
- كثرة الجدل: فالمنتفخ كثير المماحكات والجدالات العقيمة التي لا ترتجى منها أية فائدة، يهوى اللجاج، وإثارة العجاج، من دون دراية أو حجاج، ظانا أن ذلك هو سمة العلم وبرهان الفهم.
- التنابز بالألقاب: يميل المنتفخ إلى إلصاق الألقاب المسيئة والمهينة بمخالفيه، ووسمهم بأوصاف مزرية بغرض ازدرائهم وتقليل قيمتهم لدى العامة، الذين تستهويهم الأساليب التهكمية، وتهزهم الشعارات التنمرية.
- محاكمة النيات: فالمنتفخ يميل إلى الطعن في النيات والحكم عليها من فلتات اللسان دون تثبت، لأنه في جفاء مستحكم مع عالم الأفكار والمطارحات البناءة.
- الاشتغال بالتصنيف: فبمجرد أن تناقش المنتفخ يضعك في صندوق خاص موجود في خياله المعلول، ضمن مجموعة صناديق يحمل كل منها اسما أو تصنيفا معينا، كنوع من الإدانة المسبقة.
- الشخصنة: يميل المنتفخ إلى شخصنة النقاش والتهجم على محدثه موجها سهامه نحو الذات معيرا هامزا لامزا، مبتعدا عن أية معالجة موضوعية للأفكار أو نقدها وتقويمها.
- التعالي: المنتفخ يحب ممارسة الوصاية على وعي الآخرين، وانتفاخه يوهمه بأنه محور العلم والبقية يجب أن ينتظموا في سلكه كالهوامش، ولهذا لن تجد الحجة الدامغة إلى قلبه سبيلا، لأنه قد ران عليه غلف التعالي والكبرياء.
بسبب انحسار أفق المنتفخ يتوهم أنه وحده الجالس على كرسي الحقيقة، وهذه حالة من اكتفى بأنصاف العلم أو أرباعه
- عدم الاختصاص: عقدة المنتفخ هي التخصص العلمي والتمكن من أصول العلم وفروعه، فمعرفته هي مجرد أبعاض متناثرة، ونتف غير متجانسة، يركمها من هنا وهناك ليكون بها أكداسا مترامية.
- القطع باليقين في مسائل الخلاف: فنظرا لشح بضاعة المنتفخ واكتفائه بظاهر العلم لا ببواطنه، وجهله بأقوال العلماء ومذاهبهم، وتحرير محل النزاع، فهو يتوهم أن الصواب محصور في ما رمقته عيناه، ومقصور على ما انتهى إليه قصر نظره لا بعد فكره.
- احتكار الحقيقة: بسبب انحسار أفق المنتفخ يتوهم أنه وحده الجالس على كرسي الحقيقة، وهذه حالة من اكتفى بأنصاف العلم أو أرباعه.
- الإقصاء: فبما أن المنتفخ يتوهم احتكار الحقيقة ولا يعترف بأصل الاختلاف والتنوع، فهو ينفي الفهم عن غيره، ويتضايق من تعدد الآراء، فآفة التعالي أفقدته خلق التواضع وقبول التنوع والإقرار بنسبية أفكاره.
- قلة الزاد وكثرة الثرثرة: وهاتان الصفتان متلازمتان في المنتفخ، فهو هاوي جدال، ونديم سجال، يقتحم كل صغيرة وكبيرة، وينتقل من تخصص لآخر، مشاكسا معاكسا من دون حصافة فكرية ولا كفاءة علمية.
- عدم الإذعان للحق: فالمنتفخ لا ينساق إلى الحق ولا ينزل على رأي غيره حتى وإن سطعت على مفرقه شمس المحجة، لخلوه من شيمة التواضع، التي هي من أخص شيم العلماء الحقيقيين.
- التعصب: صفة تلازم المنتفخ كثيرا نظرا لضعف تكوينه وقلة زاده، وافتقاده للقدرة على الاستقلالية في التفكير، فلا يجد غير رداء التعصب للأشخاص أو للمذاهب أو للأفكار؛ حائلا يستر به نقيصته.
تلكم كانت بعض مظاهر آفة هذا العصر الذي طاشت فيه المعارف والعلوم، وأضحت متاحة عبر الوسائط ولكل لاقط، فأصيبت المعرفة بالكساد ومقارفوها بالتضخم.
إن الانتفاخ المعرفي مرحلة قد يمر بها كل مشتغل بالعلم شغوف بالمعرفة، لكن يجب عليه ألا يقف عند حدودها فيفتتن بزخرفها، بل لابد أن يتجاوزها إلى مرحلة التمكن والتحقيق والتأصيل، التي هي عنوان النضج والاقتدار المعرفي، ومن دالتها: التواضع الجم ورسوخ الفهم وحصافة المنطق.
ومن المعلوم لدى المحققين أن العلوم بحور غير ناضبة، والفهوم إزاءها نسبية قد يعتريها الخطأ والصواب، أو تتعدد فيها موارد الحقيقة، لكن أزمة كثير من ضحايا "الانتفاخ المعرفي" هي حرمانهم من صفتين لازمتين لكل باحث هما: التواضع والكفاءة، فالأولى سمة كمال الخلق، والثانية سمة كمال المعرفة.. فجنوا بذلك على الفكر والعلم، وتلبسوا بما لم يعطوا، وتسوروا محراب العلوم دون الرقي على سلم الاجتهاد والأخلاق.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.