شعار قسم مدونات

"أنا أقتل إذن أنا موجود".. ماذا تعرف عن طاغية روما؟

Florence, Italy - 20 Nov, 2022: Bust of Roman Emperor Caligula, Uffizi Gallery; Shutterstock ID 2321856777; purchase_order: aljazeera ; job: ; client: ; other:
تمثال للإمبراطور الروماني كاليجولا (شترستوك)

دراسة تاريخ الإمبراطورية الرومانية يوضح أن هذه الإمبراطورية ارتكبت كثيرا من الجرائم ضد الإنسانية، وأن غرور القوة كان يحكم سلوكها السياسي والحربي طوال قرون، كما أن سير عدد من الأباطرة تقدم الأدلة على خطورة الحكم الفردي الاستبدادي، وأنه لا يمكن أن تتمتع الشعوب بالعدل في ظل هذ النوع من الحكم.

النموذج الذي سأقدمه هنا هو الإمبراطور الروماني كاليجولا الذي حكم روما في الفترة من 37 حتى 41 للميلاد.

وقد لفت نظري ما قرأته في كتاب مونتسكيو "تأملات في تاريخ الرومان" عن أن هذا الإمبراطور وضع أخته دروسيلا بعد وفاتها في مقام الآلهة، ثم قرر أن البكاء عليها جريمة لأنها إلهة، كما أن عدم البكاء جريمة لأنها أخت القيصر.

وهكذا يتعرض كل مواطن في روما للعقاب إن بكى وإن لم يبك على أخت كاليجولا.

وهكذا بلغ كاليجولا بطغيانه إلى حد السفسطة، حسبما يقول مونتسكيو.

لكن تلك لم تكن الحادثة الوحيدة التي توضح القوانين الغريبة التي كان يصدرها، فقد كانت هناك معركة اسمها أكتيوم انتصر فيها الإمبراطور السابق له، فأصدر قانونا ينص على معاقبة كل من يحتفل بذكرى معركة أكتيوم، وعلى معاقبة كل مواطن لا يحتفل بذكرى تلك المعركة.

يعلق مونتسكيو على تلك الأحداث الغريبة بقوله "لا بد هنا من وقفة تدبر واعتبار.. هذه روما، كم خاضت من حروب، وكم سفكت من دماء، وكم استأصلت من شعوب، وكم كسبت من معارك وحققت من انتصارات، وكان مشروعها المذهل امتلاك الأرض بكاملها، فهل قامت روما بهذا المجهود الجبار لتشبع في النهاية نهم 5 أو 6 وحوش، من أهمهم كاليجولا".

إعلان

الخائف يصبح إمبراطورا

عندما تم اغتيال كاليجولا، اجتمع مجلس الشيوخ لينظر في أمر خلافته، ولكن خلال الجلسة، اقتحم القصر مجموعة من الجنود بغرض النهب، فعثروا في أحد مخابئ القصر على شخص خائف يرتعد يدعى كلود، فعينوه إمبراطورا.

لذلك، يصف مونتسكيو كاليجولا وخليفته كلود بالبلاهة، ويقول: "لقد صبر أعضاء مجلس الشيوخ على كل أنواع الذل والمهانة، فلم يعد لكلامهم أدنى تأثير. وهكذا تعاقب على عرش الإمبراطورية 6 حكام طغاة، كلهم قساة، كلهم معتوهون، غير موفقين في معظم مشاريعهم، والأدهى من كل هذا أن كلهم مبذرون إلى حد الجنون".

مسرحية ألبير كامو

دفعني ذلك إلى قراءة المسرحية التي كتبها ألبير كامو عن كاليجولا، وفي كثير من الأحيان يصبح الأديب أكثر قدرة على تصوير الأحداث التاريخية من الباحث الذي يحرص على التحري والتدقيق.

وهذه المسرحية توضح الحاجة إلى دور الأدب في تقديم التاريخ، وتصوير أحداثه، والمساهمة في تحقيق الوعي التاريخي للشعوب.

ويتميز ألبير كامو بأنه فيلسوف ومناضل ضد الفاشية، وتعد مسرحية كاليجولا من أهم أعماله.

ولكن لماذا اختار ألبير كامو شخصية كاليجولا؟ من الواضح أن ذلك الاختيار يتفق مع رؤية كامو التي تقوم على أن القرن العشرين وصل إلى حافة الإفلاس.

لكن الرموز التي استخدمها ألبير كامو بهدف نقل مجموعة من الرسائل التي تشكل إدانة لعمليات الإبادة التي تتم في القرن العشرين، والتي لا تقل بشاعة عن تلك التي ارتكبها كاليجولا الذي ترعرع على مشاهدة الدماء، فهو لم يكتف بقتل شعبه وأعدائه، ولكنه وصل إلى قتل أقرب الناس إليه بعد أن رأى أخته -وهي عشيقته في الوقت نفسه- جثة هامدة.

لقد كان كاليجولا يرى أنه لا يوجد فرق بين الجريمة والفضيلة، وبين الخير والشر، وبين الموت والحياة.

يملك كل شيء لكنه تعيس

في الفصل الأول من المسرحية، يصور كامو تعاسة كاليجولا التي تزايدت بعد موت أخته وعشيقته دروسيلا، وكيف أن الشيوخ قد أقروا "سفاح القربى" (زنا المحارم) حفاظا على الإمبراطورية أو خوفا من كاليجولا.

إعلان

وفي المشهد الرابع من هذا الفصل، يقول كاليجولا إنه يريد القمر "فهو أحد الأشياء التي لا أملكها، ولم أستطع الحصول عليه"، وهو يريد شيئا مستحيل التحقق.

يقول كاليجولا أيضا: "هذا العالم بحالته التي هو عليها لا يطاق، لهذا أحتاج إلى القمر أو الفردوس أو الخلود".

وكاليجولا لا يريد أن ينام، لأنه كما يقول: "إذا ذهبت إلى النوم فكيف سأحصل على القمر؟".

في الفصل الأول أيضا، يصدر كاليجولا قرارا بحظر توريث الملكية الخاصة للأبناء، فالدولة هي الوريث الوحيد لكل الشخصيات في الإمبراطورية.

ثم يصدر قرارا بقتل الشخصيات المهمة وفق جدول موضوع بشكل عشوائي لكي ترث الدولة كل شيء.

ويقول كاليجولا إن النظام الذي سيجري فيه تنفيذ أحكام الإعدام ليس مهما، فالجميع مذنبون، وسرقة المواطنين أمر لا يقل أخلاقية عن فرض الضرائب، وأن تتولى الإدارة هذا يعني أن تسرق.

ليست للحياة الإنسانية أهمية

عندما يعترض رئيس الديوان على قرار الإمبراطور يرد عليه: "عندما يكون للخزينة هذه الأهمية، فلن يكون للحياة الإنسانية أهمية تذكر.. وبما أنني أملك السلطة، فسترون أي ثمن ستدفعونه جراء هذا المنطق".

يقول كاليجولا: "أخيرا، أدركت فائدة السلطة، فمن الآن سوف أترك العنان لنفسي لتفعل ما تريد، من دون حدود، فلا أهمية لهذا العالم، ولا يوجد في إمبراطورية روما إنسان حر سواي.. افرحوا فقد ظهر عندكم في نهاية المطاف إمبراطور سيلقنكم دروسا في الحرية".

يقول كاليجولا: "من هو هذا الإله كي أرغب أن أتساوى معه؟ والذي أسعي إليه الآن، مستخدما كامل قواي، هو أن أترفع عن جميع الآلهة، إنني أتولى سلطة دولة عظمى، لأمرر فيها الحكم المستحيل".

هذه هي نتيجة الاستبداد أن يتصور الحاكم نفسه إلها كما فعل فرعون من قبل. يقول كاليجولا: "أريد أن أذيب السماء في البحر، وأن أصهر الجمال مع القبح، وأن أخلق من الألم فقاعات من الضحك، وأن أبدل كل شيء.. وسيصبح القمر بين يدي وعندها تحين فرصة التحول لي وللعالم أجمع معي، وعندها يتوقف الناس عن الموت، وفي نهاية المطاف يصبحون سعداء".

إعلان

المال أهم شيء في الحياة

يقول كاليجولا: "الحب يا سيزونيا! لقد أدركت تفاهته. والمهم هو أمر آخر: خزينة الدولة، ومن هنا يبدأ كل شيء.. وفي نهاية الأمر سوف أعيش.. أعيش الحياة والحب".

في الفصول التالية من المسرحية، يظهر جبن وعجز الشيوخ والنبلاء وتسليمهم بأوامر كاليجولا وطاعته بالرغم من قراراته الغريبة، مثل إصدار حكم بإعدام ابن لابيدوس لأنه يحبه، ويريد أن ينزع الحب من قلبه، بالإضافة إلى إذلال هؤلاء الشيوخ، واستباحة أعراضهم، وإغلاق صوامع الغلال لإحداث مجاعة في روما.

لأنهم من رعايا كاليجولا

يبرر كاليجولا إصداره أحكام الإعدام بأن الناس يموتون لأنهم مذنبون، والناس مذنبون لأنهم من رعايا كاليجولا.. إذن الجميع مذنبون، وهذا يعني أن الجميع سيموتون. وما هذا إلا مسألة وقت.

لقد كان كاليجولا يريد إعدام كل شعبه طبقا لجدول زمني وضعه للاستيلاء على ممتلكاتهم.. كما أرغم زوجات النبلاء والشيوخ على العمل في دار البغاء التي دشنها، وقرر أن يمنح وسام "البطولة الأهلية" للمواطن الأكثر مداومة على ارتياد دار البغاء، والمواطن الذي سينال هذا الوسام سوف يحكم بالنفي أو الإعدام.

عندما تقترب المسرحية من نهايتها، يقول كاليجولا: "يا للغرابة.. عندما لا أمارس القتل، أشعر بالوحدة.. فالأحياء في هذه المعمورة غير قادرين على تبديد السآمة التي تقطن عيني.. والأمور تسير على ما يرام بيني وبين أمواتي فقط".

ثم يأمر بقص لسان رجل طلب منه الرحمة. ويقول: أنا أعيش، إذن أنا أقتل، هذا ما تعنيه السعادة: "الحقد على كل ما هو موجود على الأرض والدم ونشر الكراهية".

وتنتهي المسرحية بالثورة على كاليجولا وقتله، ولكن رغم كل ما صوره ألبير كامو في مسرحيته، فإن حقيقة هذا الإمبراطور كانت أكثر بشاعة وقسوة.

ومن الواضح أن كامو قد أغفل بعض الأحداث المهمة، منها إهانة كاليجولا لمجلس الشيوخ، إذ دعاهم إلى وليمة بمناسبة تعيين حصانه عضوا بمجلس الشيوخ وقدم لهم التبن، وأمرهم أن يأكلوه، والغريب أنهم أكلوا التبن، وهذا يوضح مدى جبن النبلاء وعجزهم.

إعلان

من الأحداث التي أغفلتها المسرحية أيضا أنه كان يريد أن يبني جسرا بين قصره وكوكب المشترى لأنه يعتبر نفسه الإله الحي، ويريد أن يجري مشاورات مع الآلهة، كما أنه أمر بإعدام كل رجل أصلع لأنه كان يكره الصلع، وفرض المجاعة على روما ليستمتع برؤية الناس يموتون، قائلاَ: "سأكون أنا بديلا لكم عن الطاعون".

ورغم أن المسرحية انتهت بقتل كاليجولا، فإنها لم توضح كيفية القتل، وهي أن اثنين من حراسه طعناه 30 طعنة، ثم قتلا زوجته وابنته.

وبعد مقتله، أصدر مجلس الشيوخ قرارا بحذف اسمه من تاريخ روما، وهذا هو كل ما استطاع مجلس الشيوخ أن يفعله بعد أن أكلوا التبن خوفا منه.

هذا نموذج واحد لأباطرة الرومان الذين سيطروا على العالم، وأخضعوا الشعوب بالقوة الغاشمة، ونهبوا ثرواتها.

وسيرته توضح ماذا يمكن أن يفعل غرور القوة عندما يدفع الطغاة إلى الاستهانة بحياة الإنسان، ويجعلهم يتصورون أنهم فوق البشر، وهذا يعد برهانا على أن الطغيان من أهم أسباب انهيار الدول والمآسي التي تعيشها البشرية.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان