لم يكن إعلان الرئيس قيس سعيّد في 25 يناير/كانون الثاني 2021 -وفي عيد الجمهورية التونسية- بداية مرحلة جديدة أو تصحيحا لمسار سياسي، بل كان بالفعل انقلابا مدنيا بغلاف دستوري مزيف، وكان الفصل 80 من الدستور التونسي ضحية فيه لقراءة متعسفة لا غير، لإضفاء شرعية واهية على هذا الفعل الخطير.
ما الذي أوصلنا إلى هذه المرحلة؟ وكيف وصلت تونس في تجربة ديمقراطية فريدة من نوعها -وإن بدت متعثرة- إلى هذا المنحدر في سياق تاريخها السياسي، بعد ثورة الكرامة التي تأججت في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010؟! قد تتعدد الإجابات عن هذا السؤال، ومعها تتعدد الآراء والأفكار بتأثير نسق الأيديولوجيات التي تتبناها الأطراف التي تبشر بها.
بسقوط نظام الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، وفراره إلى منفاه الأخير، بدأت مرحلة جديدة في تاريخ الجمهورية التونسية، انتعشت فيها أحلام الأجيال من التونسيين، بمختلف مشاربهم الفكرية والسياسية، وكان الاتفاق على بناء سياسي جديد، يتمثل في إرساء دولة القانون والمؤسسات، وتكون للدستور فيه قداسة الشرعية، كوثيقة يتفق فيها التونسيون على تأسيس الجمهورية الثانية؛ وهذا ما حصل فعلا بعد المصادقة على دستور 2014، وهو ما سمي "دستور الثورة".
لم يكن المخاض يسيرا، لكنه انتهى بتوافق أجمعت فيه القوى السياسية والوطنية على مضمون الدستور من حيث فلسفته السياسية، وهذا لم يكن في حد ذاته سهلا، لكن التونسيين نجحوا فيه بتجميع ولملمة أغلب القوى السياسية الفاعلة، والمضي نحو تطبيق ما اتُّفق عليه؛ لكن المشكلات بدأت من هنا في تعامل طبقة سياسية حديثة عهد بالعمل الديمقراطي البرلماني مع نصوص دستورية جديدة، يُضاف إلى ذلك غرابة الظرف والمرحلة على عامة الشعب التونسي، ناهيك عن الشعب العربي.
أسس دستور 2014 مضمونا توافقيا في تقسيم السلطات في الدولة، وكان هاجس التفرد بالسلطة وعودة قبضة الرجل الواحد أكبر محاذير هذا الدستور الجديد، الذي لم يتفطن كاتبوه إلى تقسيم وتوزيع السلطات التنفيذية في أعلى هرم السلطة بين رئيس حكومة مسؤول أمام البرلمان، وهو ذو صلاحيات واسعة نظرا لحزبية حكومته، وبين رئيس جمهورية يتمتع بأغلبية وشرعية شعبية نظرا لانتخابه المباشر، حتى وإن كان فاقدا لأرضية حزبية. كان هذا أكبر تناقضات دستور 2014؛ فالنظم السياسية في الأغلب إما برلمانية أو رئاسية، وليست خليطا من هذا وذاك؛ وبهذا التناقض سيتعزز التفكك وضبابية اتخاذ القرار بالنسبة للجهة المسؤولة، وكان هذا بالفعل مطبا من مطبات دستور 2014، وتردد في الحسم القانوني والدستوري في تحديد المسؤولية لمن يحكم.
وسبق انتخابات 2014 التوافق بين الشيخين: الشيخ راشد الغنوشي والأستاذ الباجي قائد السبسي، في ما سمي "اتفاق باريس" وأدى إلى إطفاء حريق صيف 2013 واعتصام الرحيل. وفي ظل التوتر الإقليمي بعد سقوط نظام الرئيس الشرعي محمد مرسي، كان هاجس الحرب الأهلية يخيم على قادة حركة النهضة الحاكمة آنذاك، وامتدت موجة الاغتيالات السياسية، وكان الهدف منها واضحا في تعفين المسار التأسيسي التونسي وتعطيل ختم الدستور التونسي.
كل هذه المراحل الدقيقة والصعبة نجحت فيها الطبقة السياسية التونسية إلى حد ما، ولكنها لم تنجح في الاختبار الثاني للديمقراطية بعدما دخل دستور 2014 حيز التنفيذ، وبدا التوافق الذي كان مطلوبا في صيف 2013 بين الشيخين غير قابل للاستمرار ضمن الاستقرار النسبي في كنف دستور 2014، خاصة بعد الانتخابات الأولى سنة 2014، التي فاز فيها حزب "نداء تونس" بأغلبية نسبية، ولكنها كانت كافية لأن يحكم بها هذا الحزب الجديد، أي حزب نداء تونس.
قدم الرئيس الباجي قائد السبسي، وبدهاء شديد، هدية مسمومة لقيادة حركة النهضة، عندما عرض عليها المشاركة في الحكم ببعض الحقائب الوزارية الهامشية، في حين أن المرحلة كانت تحتاج إلى معارضة سياسية قوية وحزب حاكم يحكم البلاد، فالدساتير المكتوبة تحتاج إلى تقاليد عرفية وتجارب فعلية، حتى تخرج من قالب التنظير الدستوري إلى التفعيل الدستوري.. كان هذا للأسف الشديد أكبر كارثة أضرَّت كثيرا بالتجربة الديمقراطية التونسية الحديثة، دخلت فيها التوافقات والسمسرة السياسية بين كل الأحزاب السياسية المكونة لبرلمان انتخابات 2014-2019، وتعثرت فيها أهم المطالب الشعبية والسياسية للشعب التونسي، خاصة مطالب الثورة.
قتلت أحزاب الائتلاف الحاكم آنذاك مطالب العدالة الانتقالية، التي لم تكن تطالب برؤوس من انتهك حقوق وحرمة المواطن التونسي، بل بشجاعة يبديها مسؤولو النظام السابق في الاعتذار من الشعب. كان المثال المغربي والجنوب أفريقي في تجربة المصالحة الوطنية خير مثال يمكن أن يُتَّبع، لما فيه من عمق وصرامة في إرجاع الحقوق؛ وتعثرت كذلك مطالب التونسيين في تحقيق عدالة اجتماعية واقتصادية كان غيابها من أسباب اندلاع الثورة التونسية، وقدمت الطبقة الحاكمة آنذاك صورة لفظها الشعب التونسي، ورأى فيها نموذجا "لديمقراطية الموز"، فقدَ فيها الأمل في الإصلاح؛ إصلاح ما ثار عليه.. ولم يكن قيس سعيّد -أستاذ القانون الدستوري المغمور- بعيدا عن الحراك الشعبوي الذي بدأ يكفر بالديمقراطية الفاشلة، التي لم تتمكن حتى من إنشاء محكمة دستورية لمراقبة هذه الطبقة السياسية.
جاءت انتخابات 2019 الرئاسية بعد وفاة الرئيس الباجي قائد السبسي في ظل فوضى سياسية وزعماتية، تشظَّى فيها حزب نداء تونس، وتعمقت الخلافات الداخلية لحركة النهضة.. كان هذا نذير شؤم لهذه الديمقراطية العربية الناشئة، واستغلها المرشح قيس سعيد، وكان فيها أكبر الرابحين.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.