استكمالا للمقال السابق الذي تناولت فيه بعض المغالطات في فتوى إباحة فوائد البنوك الربوية، نتابع في هذا المقال الرد على بقية هذه المغالطات:
ثالثا: الرد على قوله: "إن العملات الورقية كانت مغطاة بالذهب فكانت من الأصناف الربوية، وبعد أن لم تعد كذلك -حسب وصفه (بترودولار)- أصبحت خارج الأصناف الربوية ولا يجري عليها الربا":
- استخدم الدكتور ما يعرف بأسلوب "رجل القش"، فقد أسهب في الحديث عن الموضوع الاقتصادي الخاص بتغطية العملة بالذهب وتحولها إلى البترول ورغم أن هذا الكلام من الناحية الاقتصادية غير دقيق، فالغطاء البترولي ليس إلا جزء من الأمور التي تكتسب العملة الورقية قيمتها منها، وكلامه بالجملة غير صحيح، وفي كل الأحوال هذا الكلام ليست له علاقة بالموضوع، فعلّة الربا التي حددها العلماء في ما يخص "الذهب والفضة" هي "الثمنية"، والثمنية هي التي تجمع الذهب بالفضة بالعملات الورقية ويمكن أن يقاس عليها أي شيء يتفق الناس على اعتباره من الأثمان، والأثمان تختلف عن السلع كونها لا تستخدم في ذاتها، وإنما هي أداة لتقييم السلع والأموال، وأداة لحفظها وادخارها وأداة للشراء والبيع، وأداة للديون، وهذا التعريف يتفق عليه الشرعيون والاقتصاديون.
- القول بأن التعامل بالعملات الورقية قد أفقدها "محل الربا" قول في غاية الخطأ، فإذا قلنا بهذا القول فمن الضرورة أن ننفي عنها وجوب الزكاة أيضا، وكل أحكام الربا وسينتفي وجوب أي حكم شرعي متعلق بالأموال في عصرنا الحالي، فلا زكاة ولا ربا ولا غير ذلك من أحكام المعاملات، لأن الناس اليوم لا يتعاملون في معاملاتهم اليومية بالذهب والفضة، وهذا من أسخف ما يقال.
- فإن قيل إن بعض العلماء في القديم قد تحدثوا عن بعض الأمور المشابهة كورقة الحوالة اللازمة وأوراق البنكنوت، فإن ذلك كان في عصر كانت الأثمان المتفق عليها بين الناس هي دراهم الفضة ودنانير الذهب وكانت متوفرة في العملية التبادلية التجارية، وكان الناس يدخرون بها أموالهم ويدفعون بها زكاتهم، وليس كما هي الحال اليوم فقد تحولت كل الأموال إلى أوراق نقدية، ويلزم بذلك عقلا وعرفا وشرعا أن تحل محل الذهب والفضة وتقاس عليهما، وبذلك ينطبق عليها كل أحكام النقد من زكاة وربا وغير ذلك.
رابعا: الرد على قوله: "إن القائلين بحرمة فوائد البنوك هم الوهابية، وإن الأزهر يفتي بأنها جائزة منذ السبعينيات، وإن القائلين بالحرمة قد روجوا لذلك حتى لا يضع الناس أموالهم في البنوك ويتوجهوا لهم بها لكي يسرقوهم، كما فعل الريان، على حد قوله، وإن الإخوان يروجون لذلك لتشويه سمعة الأزهر وعلماء الأزهر":
- أستغرب وأتعجب من جرأة هذا الدكتور على الكلام بهذه الطريقة الفجة، وهو يعلم أنه لم يقل بجواز فوائد البنوك في العالم الإسلامي كله سوى بعض المحسوبين على العلم من المقربين لبعض الحكومات وحدهم دون غيرهم من كل علماء الأمة وعلماء الأزهر الشريف، وكانت بداية ذلك نهاية الثمانينيات من القرن الماضي وليس من السبعينيات كما يدعي، فقد كان شيخ الأزهر عبد الحليم محمود -رحمه الله- يفتي بحرمة فوائد البنوك، وكذلك شيخ الأزهر الذي تلاه الشيخ جاد الحق -رحمه الله- يفتي أيضا بتحريمها وكذلك الشيخ الشعراوي -رحمه الله- وبقية العلماء الربانيين من علماء الأزهر على الرأي نفسه، كالشيخ القرضاوي، والغزالي، والشيخ حسين حامد حسان، والشيخ أحمد طه ريان، والشيخ محمد المسير -رحمهم الله جميعا- وغيرهم كثير، ويمكن الرجوع لفتاويهم جميعا بسهولة على الإنترنت واليوتيوب، مسجلة بالصوت والصورة.
- بل إن جميع العلماء في العالم الإسلامي شبه مجمعين على هذا الأمر، ابتداء من قرارات المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية في الأزهر الشريف الذي عقد عام 1965، الذي حضره ممثلو 35 دولة إسلامية، وفتوى جبهة علماء الأزهر الشريف التي تضم العشرات منهم. وكذلك قرار مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في مكة المكرمة، الذي حضره ممثلو جميع الدول الإسلامية مع أكثر من 70 خبيرا في الفقه والاقتصاد في ديسمبر/كانون الأول 1985، وكذلك قرار المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي برئاسة الشيخ ابن باز رحمه الله. علاوة على قرار هيئة كبار العلماء في السعودية، وقرارات المجمع الفقهي في السودان، وفي الهند، وعلماء باكستان، والمجلس الأوربي للإفتاء والبحوث وغيرها، وقرارات عدد من مؤتمرات الاقتصاد الإسلامي التي ضمت عددا كبيرا من الفقهاء والاقتصاديين على مستوى العالم الإسلامي، والتي تجمع كلها على حرمة فوائد البنوك الربوية.
- الفتوى بجواز الفوائد البنكية ظهرت عندما أصبح الشيخ محمد سيد طنطاوي مفتيا لمصر، وحتى هو فقد بدأ هذه الفتوى بالتدرج فقال بعدم حرمة جميع المعاملات البنكية، ثم وصل تدريجيا إلى إباحتها بالكلية، وكما يقول الشيخ علي القره داغي -في مقالة له بعنوان: "فوائد المصارف من الحرام المجمع عليه إلى الحلال"- ردا على الشيخ محمد سيد طنطاوي: "ثم تطور الوضع فأكثر، فأباح فوائد البنوك التقليدية من خلال كتابه المسمى (معاملات البنوك وأحكامها الشرعية)، وقد قام بالرد عليه كبار علماء المسلمين وكبار فقهائهم أمثال العلامة الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه الشهير (فوائد البنوك هي الربا المحرم) والدكتور علي السالوس في مجموعة من كتبه وجمع غفير من علماء الأزهر الشريف وغيرهم".
ويتابع القره داغي: "كما قمت بالرد عليه، ومناظرته في برنامج إذاعي يسمى (قضايا وآراء)، واقترح فضيلته عقد مؤتمر خاص بهذا الموضوع، ولكنه مع الأسف الشديد لم يقم بذلك، بل ركز منذ حوالي سنة 1988 على تجميع من يؤيده في هذه الفتاوى في المؤسسات التي تتبع الأزهر الشريف، ولذلك لم يعرض هذا الموضوع على مجمع البحوث منذ فتواه عام 1989 إلى أن اطمأن إلى تأييد الغالبية فعرضه في 31 أكتوبر/تشرين الأول 2002 برئاسته. وبعد مطالعة القائمة الملحقة نجد أن الذين أفتوا بحل الفوائد البنكية معظمهم متخصصون في علوم الفلسفة والتفسير، والحديث والقانون ونحو ذلك، ولذلك رفض المتخصصون في الفقه والأصول (الأستاذ الدكتور عبد الفتاح الشيخ والأستاذ الدكتور محمد رأفت عثمان) هذه الفتوى، ولو جمع رئيس المجمع علماء الاقتصاد وفقهاء الشريعة لما انتابني أدنى شك بأنهم لن يوافقوا على ذلك"، انتهى كلامه.
الخلاصة: يتبين من ذلك أن الفتوى بجواز الفوائد البنكية الربوية من مجموعة قليلة جدا من المحسوبين على العلم الشرعي مخالفين بذلك إجماع جميع العلماء في الأزهر الشريف وفي العالم الإسلامي والمجامع الفقهية والهيئات التخصصية لهو دليل قاطع على عدم مصداقية ما يقول المجيزون، وأن وراء رأيهم أمورا أخرى غير موضوعية ولا يمكن أن يعتمد على فتواهم مسلم يخاف الله عز وجل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.