شعار قسم مدونات

ذكريات القراءة بين الكتب القديمة والرقمية

شارع المتنبي بمعرض الدوحة الدولي للكتاب 2023 (الجزيرة)

في مبنى عصري ضخم، أقيم معرض الدوحة الـ32 الدولي للكتاب في هذا العام 2023، حيث تم عرض كتب قديمة من "شارع المتنبي بالعراق".

وقفت بين يدي باعة الكتب القديمة في معرض الدوحة العصري، وأنا أتنقل بين عناوينها، وأقلّب بعض صفحاتها.. فبدأت تراودني ذكريات وتساؤلات وأنا ألمس تلك الكتب والصفحات وكأنني أمرر أصابعي على وجه طفل رضيع..

هل رفعت بين يديك يوما رضيعا لتقربه من شفتيك، وتُقبّل خذه الناعم قبلة تخاف أن تخدش بها وجه الرضيع؟! نعم، هكذا تماما فعلت مع بعض الكتب القديمة التي تم جلبها من "شارع المتنبي" للمعرض، حيث تداخل مشهدان، ماضٍ مع كتب "الخردة"، وحاضر مع الكتب الإلكترونية في عصرنا الرقمي..

وأنا أشمّ صفحات كتاب قديم في "شارع المتنبي" بمعرض الدوحة للكتاب 2023، حاصرتني ذكريات ممتعة مع الكتب القديمة

ولقيمة تلك المؤلفات "البالية"، تم وضع غلاف بلاستيكي على بعض الكتب التي تتهدّدها أيادي الزوار والقراء، وليس ما فعل بها تصارمُ الأيام وتبدّلُ الأحوال فقط..

بيع الكتب القديمة لا يعني التربح فقط، بل يعني رعايتها وحفظها لمن يقدّر قيمتها ورمزيتها المعنوية أيضا.. إنها قطوف تاريخية.. أيام من كان يا ما كان.. إنها لحظات للذكرى وللتساؤل..

مكتبة الحيدر خانة بشارع المتنبي بمعرض الدوحة الدولي للكتاب 2023 (الجزيرة)

وأنا أشمّ صفحات كتاب قديم في "شارع المتنبي" بمعرض الدوحة للكتاب 2023، حاصرتني ذكريات ممتعة مع الكتب القديمة..
وسط المدينة التي ترعرعت فيها، كان باعة يضعون على بسط وفرش كتابا في معارف متعددة، وروايات وقصصا ومجالات وكتابا مدرسية متنوعة.. وقتها لم يكن يهمني اسم صاحب الرواية أو الكتاب..

بعد قراءة صفحات من كتب أو روايات عدة، أختار واحدا أو رواية.. ثم أسأل البائع: كم ثمن هذا الكتاب؟ ينظر إليّ نظرة تفحصٍ، ثم يجيب: ابني هذا بخمسة دراهم.. أعدّ ما عندي من فلوس.. في يوم أعطيه ما طلبه مني، وفي يوم آخر أعطيه أقل مما طلب، لكنه يقول لي: سأبيعه لك فقط لأنك تشتري مني..

تطوّرت علاقتي مع بائع كتب، فصرت أزوره في بيته حيث فتح إحدى نوافذ بيته، محوّلا غرفة منه إلى محل لبيع الكتب القديمة.. كان يستقبلني بابتسامة صغيرة: مرحبا بولدي عبد الحكيم.. صرت أختار كتابا بدل كتاب آخر بدرهمين أو درهم.. ولاحقا صرت أبيع له أعداد من مجلة ماجد وأحمد أو كتابا..

لمّا كبرت، وكبُر اهتمامي بالكتب، صرت أتعامل مع مكتبات تبيع المجلات والمؤلفات الجديدة.. هل تعرف يا صديقي أنك محظوظ في عصرنا الرقمي هذا؟!

اليوم، يا صديقي، أصبح سهلا اقتناء عدد من سلسلة عالم المعرفة الرائعة، والحصول على نسخة إلكترونية منها بسعر زهيد، وفي ثوان معدودة تبدأ في تصفح العدد الجديد، بل تحصل على أعداد سابقة مجانا

أحكي لك واحدة من التجارب مع المجالات.. تعرفت على سلسلة عالم المعرفة من خلال باعة الكتب القديمة، ولما صرت أحصل من والديّ على دخل أكبر، أصبحت حريصا على شراء العدد الجديد من هذه السلسلة الكويتية..

لكن مع قلة عدد النسخ المرسلة للمدن، كانت النسخ تنفد خلال يوم أو اثنين! وعندما لا أحصل على نسخة ألوم نفسي على التقصير في عدم الإسراع وأن أكون أول السائلين عن الجديد..

أصحبت صديقا لثلاث مكتبات حديثة، وبدأ أصحابها يخبئون لي نسخة من العدد الجديد لعالم المعرفة.. مع بداية الشهر، أقف مع مشترين، ودون أن أسأل، يدفع لي صاحب المكتبة نسخة لي.. أضع عشرة دراهم أمامه، وأشكره.. ثم ألقي نظرة على الجديد لباقي المجالات أو الكتب الموضوعة على رف زجاجي.. وغالبا ما أنصرف دون شراء شيء آخر..

اليوم يا صديقي، أصبح سهلا اقتناء عدد من هذه السلسلة المعرفية الرائعة، والحصول على نسخة إلكترونية منها بسعر زهيد، وفي ثوان معدودة تبدأ في تصفح العدد الجديد.. بل تحصل على أعداد سابقة مجانا..

دعك من هذه السلسلة، هل تذوقت جمال الصيف مع روايات قصيرة أو طويلة، ومع كتب دسمة أيضا؟!

كنت أسافر لمدة أسبوعين إلى مدينة ساحلية أخرى لقضاء عطلتي الصيفية مع ابن عمي.. نعم كنا نقضي الصيف مع عائلتنا خمسة عشر يوما.. لم نشعر بالملل منهم ولا هم يملّون منا! من جعلنا أنانيين وذاتيين؟ ومن جعل العطلة في فندق "أسعد" من عطلة مع الأسرة -كما يصورون لنا في الإعلانات-؟! من بثّ بيننا الشقاق والتباعد لهذه الدرجة؟!

هل ما أشعر به، يا صديقي، حنين إلى ماض، أم انفصال عن حاضر؟!

دعنا من ذلك، وأنا أقلب صفحات كتاب قديم في شارع المتنبي بمعرض الدوحة، تذكرت ذات صباح ذهبت فيه مع أخي محمد إلى حديقة، أخذ كلّ منا رواية قديمة.. لم أشعر يومها بالحرارة المرتفعة لذلك اليوم..

لأكنْ معك صريحا أكثر، في عصرنا الرقمي الحالي، صرتُ أبحث عن نسخة إلكترونية لكل كتاب ورقي يعجبني.. هل أصبت -أصبنا جميعا- بمتلازمة "الإدمان الرقمي" والأجهزة الرقمية؟!

كانت صفحات الرواية وظلال الأشجار ونسائم البحر البعيد منا بكيلومترين تقريبا، تنسينا حرارة الصيف.. كانت أحداث الرواية، ومتعتها وجاذبيتها، تمنحنا هواء "باردا" يدفع عنا الحر.. كانت الأوقات مع الكتاب القديم تهرب منا.. كنا نتمنى أن يتأخر وقت تناول الغداء لساعات..

الكتب القديمة بمعرض الدوحة الدولي للكتاب 2023 (الجزيرة)

اليوم، انظر إليّ وإلى نفسك ولمن حولنا، الكل صار مشغولا بالهاتف المحمول، ينسينا الوقت والمكان والأجواء وحتى الكتاب.. هل سرق منا الهاتف "الذكي" حياتنا؟ أم نحن من استسلمنا له، وصرنا له عبيدا أو "أحرارا"، كما يقول لنا صانعو الأجهزة الرقمية؟!

في عطلة فصل الربيع، في مارس من كل عام، كنت أذهب إلى قريتنا.. هناك كان أخي محمد وابن عمي عيسى يذهبان للسوق الأسبوعي بمديونة، كانا يأتيان بكتب قديمة، أو يستبدلان القديم غير المقروء بالقديم المقروء من قبلهما.. معهما بدأت أقرأ كتبا في النقد الأدبي والفكر الفلسفي الغربي والإسلامي.. بدأت أرى أن الرواية تسرق مني وقتا أطول أحتاج إليه لبناء معارف في حقول أخرى أشد ارتباطا بحياتنا الخاصة والعامة..

آه، يا صديقي، لم نكن نقضي وقتنا كله في القراءة، كنا نلعب ونتعارك ونلهو ونخرج في نزهات، ونأكل ونشرب وننام، ونقضي أوقاتا أمام التلفزيون بين السادسة والثامنة مساء.. لكننا لم ننس الكتاب..

لأكنْ معك صريحا أكثر، في عصرنا الرقمي الحالي، صرت أبحث عن نسخة إلكترونية لكل كتاب ورقي يعجبني.. هل أصبت -أصبنا جميعا- بمتلازمة "الإدمان الرقمي" والأجهزة الرقمية؟!

إنها وسيلة رقمية سهلت أمورا كثيرة، لكنها أصابتنا بأعراض عديدة، فقط تذكر، يا صديقي، تجوالي القصير هذا مع بعض ذكرياتي..

لا أعرف ماذا سيتذكر أولادي وأولادك عندما يكبرون؟.. هل سيتذكرون الألعاب الإلكترونية وإنستغرام وتيك توك؟! ماذا سيتذكّرون من هذه الوسائل الاتصالية الرقمية؟ كيف سيعيشون ذاكرتهم غدا؟ أم إننا ننظر من داخل صندوقنا القديم؟ أليس الإنسان إنسانا حيثما كان وارتحل، وكيفما كانت وسائل اتصاله؟..

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان