شعار قسم مدونات

صراع الأخلاق.. بريطانيا "الماسونية" (27)

مدونات - الماسونية
التعاليم واللوائح الخاصة بالماسونيين الأحرار "تمت رؤيتها والاطلاع عليها من قبل ملكنا الراحل هنري الخامس (1421-1471م) (مواقع التواصل)

كانت بريطانيا ومازالت الأرض الخصبة التي ترعرعت فيها الماسونية، وتوطدت أركانها ودعائمها، بعد أن احتضنها الملوك والأمراء واللوردات البريطانيون جيلاً بعد جيل. نتابع استعراض تاريخ الحركة الماسونية كما عرضه القس الماسوني جيمس أندرسون الذي كلفته الحركة الماسونية بإعداد دستور الحركة الماسونية الذي طبع قبل 300 عام، ويجري هذا العام الاحتفال بذكرى مرور 3 قرون على هذا الدستور الذي صدر تحت اسم "دساتير الماسونيين الأحرار".

وقد استعرضنا في المقالين السابقين هذا التاريخ منذ سيدنا آدم عليه السلام وحتى الإمبراطورية الرومانية، ونواصل في هذا المقال استعراض المرحلة الأخيرة من هذا التاريخ والتي تنتهي بموعد نشر هذا الكتاب قبل 300 عام. وتعتبر هذه المرحلة أهم مراحل تاريخ الماسونية، التي وجدت لها أرضية صلبة تقف عليها، وتنطلق منها لتزيد من نفوذها وسيطرتها، وتوسّع دائرة انتشارها على مستوى العالم، بعد أن وجدت لها الحماية السياسية والأمنية، وأسست لها القاعدة الفكرية والعلمية القادرة على الاختراق والإقناع والجذب.

يؤكد أندرسون أن الملك هنري الخامس (1421-1471) ولوردات المجلس الموقّر قد اطلعوا على التعاليم واللوائح الخاصة بالماسونيين الأحرار وأقرّوها، وسمحوا للماسونيين بالعمل وفقها، وأن كلّاً من واللوردات قد اندمجوا مع الماسونيين الأحرار، وكان الملوك في أغلب الأحيان في مقام "السيد الأعظم للمحفل"

الملكية الماسونية

يذكر أندرسون أنه بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية انتقلت الماسونية إلى بريطانيا التي دخلت في المسيحية كباقي أجزاء أوروبا، وسرعان ما بدأت في تقليد الآسيويين واليونانيين والرومان، في إقامة المحافل وتشجيع الماسونيين على تدريس الهندسة وعلوم البناء، وصاحب ذلك اهتمام الأمراء والملوك الأجانب، ولا سيما من قبل ملك فرنسا تشارلز مارتيل (688-741) الذين، وفقًا لسجلات الماسونيين القديمة، أرسلوا العديد من رجال الحرف اليدوية والمهندسين المعماريين إلى إنجلترا، بناءً على رغبة الملوك الساكسونيين.

وعلى الرغم من أن الغزوات العديدة للقبائل الدانماركية أدت إلى فقدان العديد من السجلات، إلا أنها في أوقات الهدنة أو السلام لم تعرقل كثيرًا من العمل الجيد. وبمجرد انتهاء غزو قبائل النورمان للساكسونيين والدانماركيين، وإعلان انتهاء الحروب وإعلان السلام قام الملك وليام الثاني في القرن 11 الميلادي (1056-1100) ببناء صالة ويستمنستر، التي ربما تكون أكبر صالة يتم بناؤها في الأرض حينذاك، والتي بلغت مساحتها 1515 مترا مربعا.

ويذكر أندرسون أنه على الرغم من أن السجلات القديمة للماسونية في إنجلترا كانت قد دمرت أو فقدت في حروب الساكسونيين والدانماركيين، إلا أن الملك أثيلستان (894-939) حفيد الملك ألفريد العظيم كان مهندساً معمارياً عظيماً، وأول ملك يحكم إنجلترا من الساكسون، وأول من ترجم الكتاب المقدس إلى اللسان الساكسوني؛ بنى العديد من الأعمال العظيمة، وشجّع العديد من الماسونيين من فرنسا، الذين تم تعيينهم مراقبين لها، وأحضروا معهم التزامات ولوائح المحافل الماسونية المحفوظة منذ العصر الروماني، والتي استفاد منها الملك لتحسين دستور المحافل الماسونية الإنجليزية. وكان الأمير إدوين، الابن الأصغر للملك أثيلستان، يدرس الماسونية ويتحمل الالتزام بأنظمتها ولوائحها، نظراً للحب الذي كان يكنّه للماسونية ومبادئها الشريفة، على حد قول أندرسون. وقد عمل إدوين على إصدار ميثاق من والده الملك أثيلستان، يعطي الماسونيين الحرية والسلطة لتنظيم أنفسهم، وإقامة اللقاءات السنوية والاجتماعات الجماهيرية.

وبناءً على ذلك، كما يقول أندرسون، استدعى الأمير إدوين جميع الماسونيين في المملكة لمقابلته وقاموا بتشكيل محفل عام، وكان هو السيد الأعظم للمحفل؛ وقد جلبوا معهم جميع الكتابات والسجلات الموجودة، بعضها باليونانية، وبعضها باللاتينية، وبعضها بالفرنسية، وبعضها بلغات أخرى. ومن محتويات هذه الكتابات والسجلات قاموا بوضع أول قواعد ولوائح لدستور المحفل الماسوني الإنجليزي، مع وضع قانون للحفاظ عليها ومراقبة العمل بها في جميع الأوقات القادمة. وبمرور الوقت، أصبحت المحافل أكثر انتظاماً، تم تعيين العبادة الصحيحة للسادة والزملاء، بموافقة أمراء المملكة، حيث كان معظم الرجال العظماء وقتها ماسونيين.

ويوضح أندرسون أن هذه التعاليم واللوائح الخاصة بالماسونيين الأحرار قد "تمت رؤيتها والاطلاع عليها من قبل ملكنا الراحل هنري الخامس (1421-1471) ومن قبل لوردات المجلس الموقّر، الذين سمحوا للماسونيين بالعمل وأقرّوا دستورهم وتعاليمهم ولوائحهم التي استخلصوها على مرّ العصور. حيث كان كل من الملك المذكور واللوردات قد اندمجوا مع الماسونيين الأحرار. ويؤكد أندرسون على أن السجلات والتقاليد تشهد على الاحترام الملوك الكبير للأخوية الماسونية، التي كانت تقدّم دائمًا الدليل على حبها وولائها للمملكة. ومن هنا ظهر القول الشهير بين الماسونيين الأسكتلنديين: "ليبارك الرب الملك والماسونية".

ولم يتم إهمال المثال الملكي من قبل النبلاء والنبلاء ورجال الدين في أسكتلندا، الذين شاركوا في كل شيء لصالح الماسونية، حيث كان الملوك في أغلب الأحيان في مقام "السيد الأعظم للمحفل".

ومع ذلك، فإن العناية الكبيرة التي اتخذها الأسكتلنديون بالماسونية الحقيقية أثبتت بعد ذلك أنها مفيدة جدًا لمقاطعة إنجلترا؛ وخاصة في زمن الملكة إليزابيث الأولى (1533-1603)، التي شجّعت العلوم والفنون، ولم تستطع أن تكون ماسونية لأنها امرأة، حيث كانت الماسونية حينها مقصورة على الرجال. ثم خلفها الملك جيمس السادس (1566-1625)، أول ملك لبريطانيا العظمى، وكان ماسونياً، حيث أعاد إحياء المحافل الإنجليزية. وعند وفاته، كان ابنه الملك تشارلز الأول أيضًا ماسونياً.

وبعد انتهاء الحروب الأهلية، واستعادة العائلة المالكة، تم ترميم الماسونية الحقيقية، وخاصة بعد حريق لندن 1666، حيث ساهم الماسونيون في إعادة بناء منازل المدينة، على عهد الملك تشارلز الثاني (1630-1685)، الذي كان ماسونياً ومشجعاً كبيرًا للماسونيين. ولكن في عهد أخيه الملك جيمس الثاني (1633-1701) تضاءلت محافل الماسونيين في لندن، وقلّ التردد عليها على النحو المعتاد. إلا أن ذلك لم يدم طويلاً، حيث تمت الإطاحة بالملك في ثورة بيضاء 1688م بسبب اعتناقه المذهب الكاثوليكي، وأولى خلفه الملك وليام الثالث (1650-1702) اهتماماً كبيراً للماسونية من جديد، وكان ماسونياً له تأثير على النبلاء والأثرياء والمتعلمين في بريطانيا العظمى. ومن بعده، قامت الملكة آن (1665-1714) بالاتفاق مع مجلس النواب على قانون يقضي بإقامة 50 كنيسة جديدة في لندن ويستمنستر وضواحيها على الطراز الروماني القديم. وقد تابع الملك جورج (1660-1727) من بعدها هذا النهج.

صار الماسونيون في ظل الرعاية الملكية يتمتعون بثمار السلام والحرية، وأعادوا إحياء محافلهم في لندن، وخارجها، بمشاركة العديد من النبلاء والسادة من أفضل الرتب، مع رجال الدين والعلماء المتعلمين من معظم المهن والطوائف، بعد أن انضموا إلى الماسونية في العلن، وتقدموا لتولي مسؤولياتها.

الخروج إلى العلن

في ختام استعراضه لتاريخ الحركة الماسونية، يقول أندرسون "باختصار، سيتطلب الأمر العديد من المجلدات الكبيرة لاحتواء الكثير من الأمثلة الرائعة للتأثير العظيم للماسونية منذ بدء الخليقة، في كل عصر وفي كل أمة، والتي يمكن جمعها من المؤرخين والرحالة،.. ويجب أن نستنتج، أنه لم يتم تشجيع أي فن أكثر من فن البناء (الماسونية)، بل لا يوجد غيره مفيد على هذا النحو للبشرية".

ويضيف "والآن (أي في بدايات القرن 18)، يتمتع الماسونيون بثمار السلام والحرية، وأعادوا إحياء محافلهم في لندن، وخارجها،… بمشاركة العديد من النبلاء والسادة من أفضل الرتب، مع رجال الدين والعلماء المتعلمين من معظم المهن والطوائف، بعد أن انضموا إلى الماسونية في العلن، وتقدموا لتولي المسؤولية، وارتداء شاراتها تحت قيادة السيد الأعظم والمعلم الأنبل الأمير جون مونتاغ دوق مونتاغ".

ولم يغب عن أندرسون أن يشير إلى دور الماسونية في فترات السلام والاستقرار، حيث يعتبر أن أعضاءها فوق جميع الفنانين وأصحاب المهن الأخرى، فهم، أي الماسونيين، هم المفضلون والأكثر التزاماً بتعهداتهم الكبرى في جميع المواد، ليس فقط في الحجر والطوب والأخشاب والبلاستر؛ ولكن حتى في القماش أو الجلود، أو أيًا كان ما يفعلونه، في أنواع الهندسة المعمارية المختلفة. بما في ذلك الرسامون والنحاتون، وقاطعو الأحجار، والبناؤون، والنجارون، وصانعو الخيام، والعديد من الحرفيين الآخرين.

ورأينا في هذا المقال الخلفية التاريخية للعلاقة الوطيدة بين بريطانيا والحركة الماسونية، التي تناولناها في مقالنا رقم (24) من هذه السلسلة تحت عنوان "من يحكم العالم؟"، والذي سلّطنا فيه الضوء على الدور الذي تقوم به الماسونية البريطانية في تنظيم وتوجيه وضبط الحركة الماسونية في جميع أنحاء العالم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.