شعار قسم مدونات

أردوغان.. ملامح من فقه المبادرة السياسية

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان (الجزيرة)

كان يوم الثامن من شهر ذي القعدة لعام 1444 هجرية يوما استثنائيا في التاريخ السياسي المعاصر للتنافس الأبدي والصراع الأزلي بين الشرق والغرب، فقد كانت دعوات المسلمين في أنحاء العالم تظلل القسطنطينية تسأل الله "النصر والتمكين" لرجب طيب أردوغان، وكانت عواصم الغرب المسيحي تحبس أنفاسها وتجرب أدعية كنائسها لعلها تنجح فيما فشلت فيه الدعاية الشرسة للإعلام الغربي من سعي حثيث لإسقاط أردوغان وإنجاح كمال كليجدار الحارس المؤتمن على القيم العلمانية والغربية.

لم يكن طريق رجب طيب أردوغان إلى هذه المكانة العالمية المؤثرة في علاقة الشرق والغرب حاضرا ومستقبلا طريقا معبدا، فقد كانت العقبات والمتاريس توضع في سبيله وكان يفلت منها "جميع الدهر" إفلات المهلب بن أبي صفرة من "الوهق"، ثم يواصل المسيرة "ربيط الجأش منشرح الصدر"، ينظر إلى حيل خصوم الداخل وأحابيل أعداء الخارج نظرة الحازم  تأبط شرا إلى الخطوب، فكانت حياته السياسية ملحمة من ملاحم هذا القرن لا ينبغي أن يكتب عنها ببرودة التحليل السياسي فقط، بل يجب أن ينظر فيها إلى القيم القيادية التي فعَّلها أبو بلال فصار "قريع الدهر" في أزمنة الركون والاستسلام.

بالإقدام الكاريزمي استطاع أردوغان أن يهزأ بأولئك المتصلين المخبرين الذين أرادوا زعزعة أركانه وثني إرادته عن الترشح لبلدية إسطنبول الكبرى، وهددوه بالقتل

إن الباقي من كل مسيرة سياسية ناجحة أو فاشلة هو الاعتبار الخالص بما فيها من دروس من غير تقليد لشكلياتها، واستلهام متبصر لروح الإبداع فيها، واستحضار واع للمميزات القيادية الأخلاقية لصانعها، ولعل أبرز خلق اتصف به رجب طيب أردوغان وبه -بعد توفيق الله- استطاع الصمود والتميز في عالم لا يرحم الأيدي المرتعشة والقلوب الواجفة هو خلق الشجاعة والإقدام، وهذا "مفتاح شخصيته" إذا ما طبقنا منهج العقاد في الحفر عن الأسرار الكبرى لأرباب العبقرية في تاريخنا.

كان تجاوز العقبات الأولى التي اعترضت مشوار أردوغان السياسي يحتاج إلى قلب شجاع وعزم ماض، فلولا الشجاعة الأدبية والإقدام الكاريزمي لبقي أردوغان مناضلا في صفوف الأحزاب التي كان يؤسسها معلمه وشيخه المهندس نجم الدين أربكان، فبالشجاعة استطاع أردوغان أن يبتعد سياسيا عن حزب السعادة، ويشق طريقه الحيوي بنفسه بعد أن غلب الجمود على الأداء السياسي لأسلافه.

وبالإقدام الكاريزمي استطاع أردوغان أن يهزأ بأولئك المتصلين المخبرين الذين أرادوا زعزعة أركانه وثني إرادته عن الترشح لبلدية إسطنبول الكبرى، وهددوه بالقتل، فهزئ بهم وبمحاولاتهم فكانت محاولة اغتياله عن طريق حادث سير مفتعل، ومنذ نجاته من ذلك الحادث وهو شجا في حلوق أركان الدولة العلمانية العميقة التي استطاع اختراقها ومراغمتها بمهارة سياسية وعقل إستراتيجي بصير بما حوله من تحديات ومعتز بما لديه من إمكانيات.

أخذ أردوغان من أهل ريزه منطقة أسلافه سمات ميزت حياته السياسية فأهل ريزه يمتازون "بسمات مميزة فتراهم يميلون إلى الشجار ولكنهم لا يضمرون حقدا لأحد، يغضبون بسرعة، ويهدؤون بسرعة، ويتميزون بصفات عديدة منها الشجاعة والإقدام، والذكاء الحاد والهمة العالية في العمل". فبهذه الروح المتوثبة والنفس الشجاعة كانت يوميات أردوغان شجارا وإنجازا، وصلا وقطيعة، إقداما وإقداما.

في محاريب الأئمة والخطباء والمحاضن التربوية في جماعة نجم الدين أربكان قوي إيمان أردوغان، وترسخ يقينه بالله فكان يتلقى المخاوف والتهديدات بالقتل برباطة جأش، ويعلو وجهه ثبات يبدد كل تردد

الشجاعة في سيرة أردوغان السياسية تعترض القارئ أينما اتجه؛ فبالشجاعة الفكرية استطاع أردوغان وهو المترعرع في أدبيات الإسلاميين الكلاسيكيين أن يضع خطاب الهوية جانبا من غير أن يرف له جفن أو يعتريه تردد، وأن يتفرغ عمليا للتدبير الذي كان فيه آية من آيات الإنجاز والترقي، منطلقا من أن "خدمة الشعب طاعة للحق"، موقنا أن الفقر أخو الكفر، وأن "الجوع بئس الضجيع"، وأن المرضى لا حرج عليهم حتى يستعيدوا عافيتهم، فكان طبيبا نطاسيا لأدواء تركيا التي أرهقتها الانقلابات وآثار التخلف والتبعية.

وبالشجاعة والإقدام استطاع أردوغان أن يتصدى لأشرس انقلاب عسكري يخطط له في تركيا بعمالة داخلية وتمويل إقليمي ورعاية دولية، فلولا رباطة الجأش وإطلالة الواثق، وكلمات القائد ووعي الشعب الذي آنس في أردوغان نور المنقذ لما كان لذلك الانقلاب المشؤوم أن يفشل، وبالشجاعة استطاع أردوغان أن يتصدى لقسم رئيسي من الحاضنة الشعبية التي كانت تنتخبه فيفكك أواصرها ويلاحق مموليها ومدبري خططها، ويشن عليها حربا شعواء حماية للاستقلال الداخلي من عبث العابثين وعمالة المخبرين.

وبالإقدام كانت القرارات الاقتصادية الصعبة التي اتخذها رجب طيب في مختلف مراحل حكمه، تلك التي قفزت بتركيا من دولة شبه فاشلة إلى دولة رائدة في الصناعة والاقتصاد والسياحة، وتلك التي اتخذها في مواجهة حروب العملات ومحاولات القضاء على عصب الاقتصاد التركي، وبالإقدام والشجاعة يتصدر أردوغان اليوم قائمة الزعماء المتصدين للإمبريالية الغربية بندية، يفند المزاعم ويدافع عن الفطرة وقيم الأسرة ويكافح "اللهبية" المستعرة في الغرب، ويعيد بإنجازاته العظيمة للشرق مكانته في التاريخ العالمي ودورة الحضارة.

ففي محاريب الأئمة والخطباء والمحاضن التربوية في جماعة نجم الدين أربكان قوي إيمان أردوغان، وترسخ يقينه بالله فكان يتلقى المخاوف والتهديدات بالقتل برباطة جأش، ويعلو وجهه ثبات يبدد كل تردد، أو مخاوف تنتابه فقد "كان واضحا أن عقيدته قد جعلته ثابتا حرا إلى درجة لا يخشى معها أي قوة دنيوية، وأنها قادرة على التحدي عند اللزوم ومجابهة كل الصعاب، كانت هذه الروح المطمئنة القوية تنفث فينا جميعا الشجاعة والجرأة"، كما يقول كتاب سيرته في "قصة زعيم – ص 17".

إنّ الناظر المتفحص لرجالات هذا القرن وزعاماته الإسلامية والسياسية، يدرك أنّ من أعزّ منهم الإسلام وأعلى رايته وشأنه، أعزه الله ووفقه وخلّد سيرته

لقد ظل هذا الثبات في القول والعمل سمةً ملازمة لمسيرة أردوغان، فما خابت وعوده لشعبه قط، وهو يقود البلاد في ظل مشهد دولي يشهد تنافسا محموما بين الأمم الحية التي تكافح للحفاظ على مكتسباتها الحضارية، غير آبه بالمشككين والمناوئين في الداخل والخارج، يستمطر مدد التثبيت من خالقه القائل سبحانه: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ۚ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ [ إبراهيم: 27].

لم يكن اردوغان رئيسا لتركيا فقط، بل كان زعيما مسلما، استطاع أن يقدم نموذجا إسلاميا رائدا في القيادة وإنفاذ العمل المؤسسي والديمقراطي، واحترام الحريات وحقوق الإنسان، والانفتاح على التعاون البناء والجاد والندي مع أبناء الأمم الأخرى دون الانسلاخ عن الثوابت الدينية والعرفية لشعبه وأمته الإسلامية. فكان بحق شخصية حضارية فرضت نفسها واحترامها على الساحة العالمية بمواقفه الإسلامية الرصينة، وأخلاقه الإنسانية النبيلة، وحكمته الاستراتيجية بعيدة المدى.

إنّ الناظر المتفحص لرجالات هذا القرن وزعاماته الإسلامية والسياسية، يدرك أنّ من أعزّ منهم الإسلام وأعلى رايته وشأنه، أعزه الله ووفقه وخلّد سيرته، ولا شك أن التاريخ القادم سيتوقف طويلا مع سيرة ذلك الطفل القادم من أحياء قاسم باشا والذي أعاد لتركيا بهجتها الحضارية بحكمة وطول نفس، وشجاعة.

وختاما إني أكتب عن نجاح أردوغان ومسيرته بحماس المسلم العربي الإفريقي المتلهف للانتصارات، والذي لم يزر تركيا يوما، ولم يخضع أجداده لحكم العثمانيين فتنشأ عنده عقدة المحكوم من حاكمه السابق، لكنه أحب الترك بسبب سيرة أردوغان ودعاية أبي عثمان عمر بن بحر الجاحظ لهم في رسالته "مناقب الترك"، فإن رأيت في المقال حماسا زائدا فاقرأ رسالة الجاحظ يعجبك وقار الكاتب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.