لا يكفي أن تعارض الخصم لتكسب، لا يكفي أن يكون برنامجك المعارضة، فأين هويتك؟ أين فكرتك؟ هل معركتك الشخص؟ أم البرنامج؟ أم كلاهما لأجل الوطن؟ أسئلة مشروعة لست تركيا لأعرف الجواب، أو حتى أصوت، لكنني أتصورها دارت في ذهن الأتراك، وهم يستمعون للأصوات كلها، لكن صوت الطيب أردوغان كان واضحا تماما.
كان واضحا ليس فقط لأنه متدين، أو لأنه يستخدم العاطفة الدينية، ولا لأنه يقدم خدمات بلدية جيدة، لأجل هذا وأكثر، للاستقرار في حد ذاته، والانسجام الوطني، يكفي أن يدرك المرء أن 57 حكومة متعاقبة مرت على الجمهورية التركية في 79 عاما، بمعدل يقترب من عام ونصف العام إلى 3 أعوام، ما حرم الجمهورية التركية العلمانية الديمقراطية نعمة الاتساق في البرامج المنفذة، وأبقاها نهبا للأفكار المتضادة، والمتضاربة.
العدالة والتنمية كان إدراكا للحراك الاجتماعي، والقلق المتنامي في طبقات المجتمع الكادحة، والوسطى، والتي ملت الانقلابات المتعاقبة، ولعبة انقلابات كان آخرها انقلاب المذكرة الذي فجّر التناقضات في الجمهورية العلمانية
هذا الانسجام ذاته، ما جعل تركيا تمضي قدما، فتحل الأزمة الكردية، ويتقلص نفوذ حزب العمال الكردي، وتهدأ خاصرتها الجنوبية، وجعل الاقتصاد ينمو، والدور العالمي يعود، ولفظا تركيا يستعيد هيبته التقليدية القديمة، هكذا كانوا، وسيبقون فوق هضاب الأناضول منذ جاءها أجدادهم القدامى قبل ألف عام، ويزيد.
"العدالة والتنمية" كان إدراكا للحراك الاجتماعي، والقلق المتنامي في طبقات المجتمع الكادحة، والوسطى، والتي ملت الانقلابات المتعاقبة، ولعبة انقلابات كان آخرها انقلاب المذكرة الذي فجّر التناقضات في الجمهورية العلمانية، فقد بدأت تساؤلات لم تنته حول معنى العلمانية التي تشترط الحرية، في حين تحرم المواطن منها لأنه لم يخترها، وهنا يبدأ التساؤل في قلب النموذج الفكري ذاته، هنا بدأ أردوغان، ورفاقه في التساؤل في لب الخلل في تجربة الرفاه، ولماذا كانت تسقط بسرعة، أليس هو ابن حزب السلامة؟
لا مانع إذن، من إحداث اختراق فكري في فكرة الرفاه، لا تمردا على الأستاذ، لكن استيعابا للموقف العام، واحتمالات الفكر، وخياراته، وما يتيحه من أدوات، وعليه فيجب الالتفات جيدا للواقع، وقراءته، والمضي قدما، ماذا عن الجيش حامي حمى العلمانية؟
الجيش بدا عازفا عن السياسة، وإن تدخل فبحذر، فقد انعكس انقلاب المذكرة سلبا على رؤية الشعب التركي له، وهو الجيش الذي يفخر بتاريخه المجيد، وعليه فيجب أن يحافظ عليه، ويدير علاقته بالنخبة السياسية بالذكاء اللازم للحفاظ على العلمانية، وصيانة المؤسسة ذاتها، وعلاقتها بالمجتمع المؤمن بها.
كل هذا أنتج فرصة كومضة البرق، سمحت بانفراجة 2002، ووصول عبد الله غل لرئاسة الوزراء، فيما الكل ينتظر خروج أردوغان، وما إن خرج حتى تولى الدفة، وانطلق بها للأمام، وحقق اختراقات خطيرة.
احتضان السوريين، أحدث ارتباكا لا يزال قائما، ولكن أردوغان يمتصه. بالتدريج تحولت الكفة لمحاولة الاستفادة من الكفاءات المقيمة
بحجة الانضمام للاتحاد الأوروبي أقنع الجيش بالتريث، فانتظر الجيش، ثم انطلق بالتدريج في حل المشكلة الكردية، فمنحهم حقوقا طبيعية لهم، لم تكن متاحة في ظل فهم قومي يعتبر الأكراد "أتراكا جبليين"، وعليه فليس لهم استقلال قومي يميزهم، ففك هذا الارتباط المزمن، ثم التفت للقضية التنموية، واتجه نحوها مقدما خيارات مختلفة عن ذي قبل.
اعترف بالتنوع ضمن الوطن، احترم وهو القادم من قومية اللاز ببقية القوميات من الأتراك مرورا بالعرب، وانتهاء بالسريان، مد يده للشرق الأوسط مكررا المحاولات الإصلاحية الدائمة منذ مندريس للالتفات للمجال الطبيعي التركي منذ العهد البيزنطي، وحقق طفرة اقتصادية مبنية على استثمار أجنبي، وتحول للتصنيع، واستقطاب للكفاءات.
قفز فوق خطة المطرقة أرجينيكون، تجاوز مشاكل تحالف قديم مع جماعة الخدمة، انتهى بتتبع أعضائها، والتخلص من نفوذهم، تلك الجماعة الغريبة المنغلقة التي تعكس في تدينها نمطا من التصوف المنحرف الغالي، وشبهات أكثر تحوم هنا، وهناك، وواصل النجاح الاقتصادي، ضريبة التحولات ثقيلة لكن لا بد منها.
اضطرب الإقليم منذ 2011، اختار الخيار الأصعب، احتضن السوريين، أحدث هذا ارتباكا لا يزال قائما، ولكنه يمتصه، وبالتدريج تحولت الكفة لمحاولة الاستفادة من الكفاءات المقيمة. انهارت قيمة العملة ولكنها عادت من جديد، ثم انهارت، ثمة خلل ما يجب إصلاحه، لكن الكل يعرف قيمة العدالة، وقيمة التنمية، وقيمة رؤية أردوغان، فالأمر لا يتوقف عند العملة وحدها، صحيح أنها جوهرية
لكن.. وقعت الواقعة عام 2016، ليلة مفصلية لم ينم فيها جزء كبير من العالم العربي، وجزم لي أتراك بأنهم لم يناموا لـ3 أيام، كانت ليلة الديمقراطية، استيقظ الشعب، واختار بنفسه النزول للميدان، وقول كلمته، جزم أتراك معارضون لأردوغان، ومؤيدون له لي ولأصدقاء آخرين بأنهم لم ينزلوا لأردوغان، إنما للديمقراطية، وحمايتها، لكن كان أردوغان نفسه شجاعا عندما طلب النزول للميادين دفاعا عن الديمقراطية، وليس حتى عن نفسه.
أضيئت المصابيح.. العدالة والتنمية مستمرة
ما ميّز أردوغان أنه مستعد لانتقاد نفسه، وانتقاد تجربته، عندما لم يفز بالنتائج المتوقعة في الانتخابات عقب الانقلاب، ألغيت الاحتفالات، وأعلنت جلسات لدراسة الموقف، ولماذا لم نصل للنسب التي نريد، وهكذا تواصلت العملية، وهكذا إذن التطوير مستمر.
يدرك الأتراك جيدا أنهم الآن شعب تحترمه دولته، وتقف معه، لا ذلك الشعب الذي صوره عزيز نيسين في رواياته المختلفة تناكفه الدولة، وتشاغبه، هنا التركي حر، ينتخب، يرفض، ينتخب الخصم، لا خوف، ولا توجس، لا انقلابات، إنما مصاعب تحلها الدراسة، ولكن الدور الإقليمي والعالمي باقيان، والتطور مستمر.
أضيئت المصابيح.. العدالة والتنمية مستمرة..
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.