شعار قسم مدونات

صراع الأخلاق.. الماسونية وهيكل سليمان (26)

BLOGS حائط البراق
أعمال البحث عن هيكل سليمان تحت المسجد الأقصى، التي يقوم بها الكيان الصهيوني منذ احتلاله لفلسطين لا تزال جارية حتى يومنا هذا (رويترز)

يحتل هيكل سليمان (المزعوم) مكانة كبيرة ورمزية عالية في الفكر الماسوني، حيث يعتبر سيدنا سليمان عليه السلام البناء الأعظم الذي لم يوجد مثله بين البشر. وتحث هذه المكانة وتلك الرمزية الماسونيين عبر المستقبل إلى ضرورة العمل على إعادة بناء الهيكل.

وفي استعراضه لتاريخ الماسونية، توقف جيمس أندرسون مؤلف كتاب "دساتير الماسونيين الأحرار" (1723) مليا عند دور بني إسرائيل في الحركة الماسونية، وتميزهم في البناء والعمارة بصورة لا يجاريها أحد على مستوى العالم، رغم إشارته إلى أنهم تأخروا في تعلمها حتى زمن سيدنا داود وسيدنا سليمان عليهما السلام، بعد هزيمة الكنعانيين في فلسطين، مرجِعا تأخرهم هذا لانشغالهم في الهندسة العسكرية لحماية أنفسهم من أهل البلاد التي وفدوا إليها منذ عهد إبراهيم عليه السلام.

وقد أولى أندرسون هيكل سليمان اهتماما خاصا، رغم أنه ليس له أي وجود خارج الكتب الدينية لبني إسرائيل، ولم يتم العثور له على أي دليل يثبت وجوده على سطح الأرض أو في باطنها، بما يتناسب مع حجمه وخصائصه التي لم تتوفر في بناء من قبله ولا من بعده. هذا الربط وهذه الرمزية يعززان الرأي القائل عند عدد من الباحثين بعلاقة بني إسرائيل بنشأة الماسونية.

جعل أندرسون من هيكل سليمان (المزعوم) نقطة ارتكاز في الفكر الماسوني، ومرحلة فاصلة يتفوق فيها اليهود على غيرهم، ويقودون فيها أعمال البناء التي ترمز إلى الحركة الماسونية في العالم.

مركزية هيكل سليمان

أشار أندرسون بإعجاب وإيجاز إلى "معبد داغون" (Temple of Dagon) إله الخصوبة عند الكنعانيين والآشوريين في الألفية الثالثة قبل الميلاد، الذي بناه الفلسطينيون في مدينة غزة، وكيف أنه كان تحفة معمارية يتسع لاستقبال 5 آلاف شخص تحت سقفه. هذا المعبد يكشف عن مهاراتهم الجبارة في البناء، ومع ذلك فإنه -حسب أندرسون- إلى جانب أروع أبنية صور وصيدا، لا يمكن أن يقارن بهندسة معبد النبي سليمان في القدس، الذي جمع له أفضل البنائين، وجلب له أفضل الحجارة والأخشاب، وصمم على أفضل طراز معماري، ليكون بيتا للصلاة لجميع الأمم، يتسع لحوالي 300 ألف شخص، وكان يشتمل على أجنحة للملوك والرؤساء والكهنة، وقد ساهم جميع الإسرائيليين الأثرياء، بالإضافة إلى النبلاء من جميع الممالك المجاورة، بمبالغ ضخمة من الذهب والفضة والمجوهرات الثمينة.

ويقرر أندرسون أن من العدل أن يكون هذا المعبد حتى الآن أرقى قطعة من البناء على وجه الأرض، لا من قبل ولا من بعد، فهو أعجوبة العالم الرئيسية التي لن يرقى لها مثيل. ويذكر أندرسون أن هذا الصرح الأكثر فخامة وروعة وجمالا وإبهارا قد اجتذب الفنانين الفضوليين من جميع الأمم لقضاء بعض الوقت في القدس، حيث اكتشفوا أن العالم بأسره، وبكل مهاراتهم المشتركة، دون الإسرائيليين، في الحكمة والبراعة في الهندسة المعمارية، بقيادة الملك سليمان، السيد الأعظم للمحفل في القدس. ويعود أندرسون ليؤكد أن هذا المعبد ظل أعجوبة جميع الزائرين، باعتباره النموذج الأكثر كمالا، الذي على أساسه قاموا بتصحيح الهندسة المعمارية في بلدانهم هم عند عودتهم.

وهكذا جعل أندرسون من الهيكل (المزعوم) نقطة ارتكاز في الفكر الماسوني، ومرحلة فاصلة يتفوق فيها اليهود على غيرهم، ويقودون فيها أعمال البناء التي ترمز إلى الحركة الماسونية في العالم.

حيث يذكر أندرسون أن تشييد هيكل سليمان ساهم في تحسين البناء في جميع الدول المجاورة، وانتشر البناؤون (الماسونيون) في سوريا وبلاد ما بين النهرين وآشور وكلدا وبابل وبلاد فارس والجزيرة العربية وأفريقيا وآسيا الصغرى واليونان وأجزاء أخرى من أوروبا، وأصبح كل منهم سيدا أعظم في إقليمه، في إشارة إلى بدايات تأسيس شبكة الحركة الماسونية على مستوى العالم.

وحسب الروايات اليهودية، فإن هيكل سليمان (المزعوم) تم بناؤه في القرن العاشر قبل الميلاد، وتم تدميره لأول مرة على يد الملك البابلي نبوخذ نصر الثاني عام 587 قبل الميلاد، عندما غزا مملكة يهودا الجنوبية وسبا عددا كبيرا من اليهود، ثم أعيد بناؤه مرة ثانية عام 516 قبل الميلاد، ثم قام الرومان بتدميره من جديد عام 70.

وفي انحياز مطلق، يشدد أندرسون في كتاب "دساتير الماسونيين" الأحرار على أنه لا أحد من جميع الأمم، يمكن أن ينافس الإسرائيليين في البناء، فضلا عن أن يتفوق عليهم، وقد أخذ الملك الفارسي نبوخذ نصر الثاني عددا من أمهرهم ليساهموا في بناء القصور والحدائق والمدن في فارس.

هذه المكانة الكبيرة لهيكل سليمان جعلت العالم والفيلسوف الماسوني الشهير إسحاق نيوتن يخصص فصلا كاملا حوله في كتابه "التسلسل الزمني للمالك القديمة"، ذكر فيه أن سيدنا سليمان هو من صمم الهيكل بتوجيه من الله. وقد وضع نيوتن مخططا لجزء من الهيكل استمده من سفر "الملوك الأول" الذي قام بترجمته عن اللغة العبرية بنفسه.

وغني عن القول أن أعمال البحث عن هيكل سليمان تحت المسجد الأقصى، التي يقوم بها الكيان الصهيوني منذ احتلاله لفلسطين، لا تزال جارية حتى يومنا هذا دون أن يعثروا له على أي أثر.

أعمال البحث عن هيكل سليمان (المزعوم) تحت المسجد الأقصى التي يقوم بها الكيان الصهيوني منذ احتلاله لفلسطين لا تزال جارية حتى يومنا هذا، دون أن يعثروا له على أي أثر

الماسونية بعد الملك سليمان

يذكر أندرسون في استعراضه لتاريخ الماسونية في هذه الحقبة، أن سكان آسيا الصغرى أبدوا تشجيعا كبيرا للبنائين الذين قاموا بتشييد جميع أنواع المباني الفخمة، ومنها ضريح الملك موسولوس اليوناني (القرن الرابع قبل الميلاد) في مدينة كاريا جنوب غرب تركيا حاليا، والذي يعتبر رابع عجائب الدنيا السبع، وقد تم بناؤه بأمر من أرملته أرتيميسيا الحزينة كشهادة على حبها له. وكان الضريح الذي لم يتبق منه شيء، عبارة عن بناء مستطيل الشكل، يبلغ ارتفاعه حوالي 45 مترا، ويتكون من 3 أجزاء. المستوى السفلي منه عبارة عن قاعة ضخمة من الرخام الأبيض، يليه المستوى الثاني الذي يوجد به 36 عمودا موزعة على جميع أجزاء البناء، تحمل تلك الأعمدة سقفا على شكل هرم مدرج، تعلوه عربة فاخرة ذات 4 جياد، وكان مما يميز هذا الضريح النقوش البارزة والزخارف المنحوتة والتماثيل المتفاوتة الأحجام على الأعمدة، وعلى جميع أركانه، والتي كانت تحكي قصصا مصورة لبعض المعارك الأسطورية.

وذكر أندرسون أن الفيلسوف العالم اليوناني فيثاغورس (القرن السادس قبل الميلاد)، أسهم في تطوير علوم الرياضيات والفلك، وأصبحت الهندسة هي الدراسة المحببة لليونان، حيث ظهر العديد من الفلاسفة المتعلمين، وأصبحت هندسة البناء الفن الملكي الأكثر احتراما وتحسنا بشكل عام بين الإغريقيين، الذين وصلوا إلى نفس المهارة والروعة في ذلك مع معلميهم الآسيويين والمصريين. ففي مصر قام الملك بطليموس الثاني في القرن الثالث قبل الميلاد، بتأسيس مكتبة الإسكندرية، وبنى منارة الإسكندرية التي كانت تعتبر خامس عجائب الدنيا السبع، وقد أصبح مهندسا معماريا ممتازا، والسيد الأعظم للبنائين (الماسونيين). وقد قلدت الأمم الأفريقية مصر في تحسين البناء، رغم أنه لم يتم بعد اكتشاف البقايا القيمة لما قاموا به في دولهم الشهيرة ذات يوم.

ولم ينس أندرسون الإشارة إلى جزيرة صقلية، التي ازدهرت فيها هندسة البناء بصورة مذهلة على يد الفيلسوف العالم أرخميدس في القرن الثالث قبل الميلاد، والذي قُتل عندما استولى الرومان على الجزيرة.

استعرض أندرسون في كتابه الحقبة الرومانية، وذكر أن الرومان نقلوا العلوم والفنون من صقلية واليونان ومصر والممالك الآسيوية التي أخضعوها لهم، وقاموا باكتشافات عظيمة، حيث أصبحت روما مركزا للعلم والتعلم، وكان من بين العلماء الذين برزوا حينها فيتروفيوس، في القرن الثاني قبل الميلاد، الذي يعتبر أب جميع المهندسين المعماريين الحقيقيين حتى يومنا هذا، تحت قيادة أغسطس قيصر، الذي يعتقد أندرسون حسب المنطق، أنه أصبح السيد الأعظم للمحفل الماسوني، ويظهر في عهده العديد من المباني الرائعة التي هي نمط ومعيار للماسونية الحقيقية لجميع الأزمنة القادمة، لأنها في الواقع مثال للعمارة الآسيوية والمصرية واليونانية والصقلية، والتي غالبا ما يتم التعبير عنها بعبارة "أسلوب أغسطس"، التي يتم تقليدها، دون الوصول إلى كمالها.

ويذكر أندرسون أن الاحتفاء بالهندسة والبنائين (يقصد بالماسونية) استمر بعد عهد أغسطس، حتى القرن الخامس بعد الميلاد، وكانت الماسونية تحظى بتقدير وتكريم كبيرين، حيث أقامت الإمبراطورية الرومانية محفلا في كل حامية رومانية تقريبا، ونقلوا مهاراتهم إلى الأجزاء الشمالية والغربية من أوروبا التي كانت بربرية قبل التوسع الروماني، ومع ذلك فقد تسبب الاحتلال الروماني الكاسح لهذه المناطق في تدمير العديد من القصور والصروح الراقية، على غرار ما حدث في الغزو الإسلامي للدول الآسيوية والأفريقية الذي سعى إلى السيطرة على العالم بالنار والسيف، بدلا من نشر الفنون والعلوم، وفي ذلك إشارة صريحة إلى الموقف المبدئي العدائي للحركة الماسونية من الإسلام، الذي كرره المؤلف مرتين في هذا الكتاب.

يواصل أندرسون استعراض تاريخ الماسونية عبر العصور، ليس من قبيل البحث العلمي في تاريخ بناء والعمارة وتطورها، وإنما لإثبات جذور فكرة الماسونية، التي تحولت على مر العصور إلى حركة عالمية سرية لا تقتصر على البنائين والمهندسين، وإنما جمعت في عضويتها القادة والزعماء والملوك والأمراء والعلماء والصفوة من كافة المجالات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.