شعار قسم مدونات

إسرائيل.. تحليلات تتجاهل الدولة العميقة

وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غانلات وقادة الجيش والاستخبارات والصناعات الجوية في غرفة التحكم خلال إطلاق "أوفق 13" إلى الفضاء (جميع الصور من تصوير وزارة الدفاع الإسرائيلية وعممتها للاستعمال الحر لوسائل الإعلام)
وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت (ثاني يسار) وقادة الجيش والاستخبارات والصناعات الجوية (الجزيرة)

تتواصل في إسرائيل، منذ أسابيع طويلة، مظاهرات واحتجاجات على قوانين جديدة أقرتها الحكومة الإسرائيلية مستندة إلى أغلبية برلمانية صاغت تلك القوانين التي من شأنها إحداث تغيير في منظومة القضاء، والحد من صلاحيات المحكمة العليا.

حراس البوابة

كثير من العرب الذين يتابعون الأزمة يرون في الأمر نوعا من ترسخ الإيمان بالحرية والليبرالية في المجتمع الإسرائيلي، وأنه "مجتمع واع" يرفض سيطرة الحاخامات المتشددين على حياة الأفراد ومؤسسات الدولة، حتى لو فازت أحزابهم بأغلبية مقاعد البرلمان (الكنيست).

وقلة لا تكاد تظهر وضعوا أيديهم على أصل الأزمة، وشخصوها ربما استنادا إلى مصادر إسرائيلية أقرت بأن إسرائيل محكومة بدولة عميقة -معروفة عند الإسرائيليين باسم "حراس البوابة"- ترسخت قبل وصول الليكود للحكم أول مرة في تاريخ الكيان قبل حوالي 46، وهذه الدولة العميقة تسيطر على الإعلام والقضاء والنقابات والمؤسسات، بغض النظر عمن يفوز في الانتخابات، ومعنى ذلك أن إدارة الدولة صاغها حزب العمل وحلفاؤه، وموظفون كبار في مختلف الوزارات يجعلون دور الوزير شرفيا أو مقيدا بمعايير إدارة مرسومة سلفا لا يمكن أن يحيد عنها.

بعض المحللين يتجاهلون أو يرفضون مركزية دور الدولة العميقة "حراس البوابة" من الجنرالات المتمرسين الذين حتى يظلل المصورون وجوههم في الاجتماعات التي تتخذ قرارات أمنية وعسكرية، مثل تنفيذ عمليات اغتيال أو قصف أو اجتياحات برية وغيرها

في شأن الحروب والعمليات العسكرية

التحليل الجاهز الشائع لأي عملية عسكرية في ظل حكومة نتنياهو، ومنها مثلا العدوان الأخير على غزة في التاسع من مايو/أيار 2023، الذي سمته إسرائيل "درع ورمح"، هو رغبة نتنياهو في إرضاء الوزير إيتمار بن غفير، كي يضمن بقاء ائتلافه الحكومي بعيد امتناع الأخير عن حضور جلسات الحكومة وتلويحه بالانسحاب منها، وأيضا كي يخفف من غضب الشارع الإسرائيلي المحتقن بسبب التعديلات القضائية التي ذكرتها سابقا، إضافة إلى رغبته في التهرب من ملاحقات قضائية بسبب تهم الفساد الموجهة إليه.

هذا التحليل، ولو أيدته مقالات في صحف إسرائيلية -وهنا تجدر الإشارة إلى أن الإعلام الإسرائيلي يخضع لتوجيهات أمنية مدروسة وصارمة- يطغى على الفضاء العربي والفلسطيني، سواء على ألسنة قادة وناطقين باسم فصائل فلسطينية أو محللين سياسيين.

وهو تحليل يبدو لي كأنه يشبّه إسرائيل بكوريا الشمالية مثلا، بحيث تذهب إلى حرب أو عملية عسكرية من أجل بقاء "الزعيم نتنياهو" في منصبه، أو من أجل إرضاء بن غفير الذي رفض الجيش الإسرائيلي أن يخدم فيه أيام شبابه.

ويتجاهل هؤلاء أو يرفضون -وأنا شخصيا حاورت بعضا ممن يتحدثون عبر فضائيات عربية وفلسطينية مختلفة ولاحظت رفضهم- مركزية دور الدولة العميقة "حراس البوابة" من الجنرالات المتمرسين الذين حتى يظلل المصورون وجوههم في الاجتماعات التي تتخذ قرارات أمنية وعسكرية، مثل تنفيذ عمليات اغتيال أو قصف أو اجتياحات برية وغيرها.

ومع أن هؤلاء يقرون بوجود الدولة العميقة، وإقرارهم لا يضيف شيئا، فهناك حديث علني إسرائيلي عن هذه الدولة، وقد ظهر مثلا عند اغتيال رابين وسجن أولمرت، ولكنهم عندما يتعلق الأمر بحرب أو عدوان أو اغتيال يخرجون على الملأ بالتحليل السياسي الذي يختزل الأمر في حسابات إسرائيلية سياسية داخلية ومصالح شخصية للساسة!

الساسة منشغلون بحياكة المؤامرات أو صناعة التحالفات والأعمال الروتينية من استقبالات وزيارات ومؤتمرات صحفية، فهم -بحكم واقعهم- مضطرون للخضوع لقرار الضباط ولا يمكنهم التمرد

الجيش والمخابرات يقرران

المؤسستان العسكرية والأمنية صاحبتا القرار الفصل فيما يخص الشأن الفلسطيني، ويتبعه ما يخص لبنان (حزب الله) وسوريا وبالتأكيد إيران، فجميعنا يعلم حقيقة أن "كل دولة لها جيش، ولكن الجيش الإسرائيلي له دولة".

ذلك أن أفرع المخابرات (الموساد والشاباك وأمان) تقوم بجمع المعلومات وتحليلها، ولها مراكز دراسات وأبحاث مهمة ومؤثرة وتستقطب إليها أمهر الباحثين، وبحوزتها موازنات ضخمة جدا، وتجند العملاء والجواسيس وتنفذ الاغتيالات، والجيش بقطاعاته المختلفة يقوم بشن العمليات العسكرية من قصف واجتياحات واعتقالات وحصار.

والساسة منشغلون بحياكة المؤامرات أو صناعة التحالفات والأعمال الروتينية من استقبالات وزيارات ومؤتمرات صحفية، فهم -بحكم واقعهم- مضطرون للخضوع لقرار الضباط ولا يمكنهم التمرد، فهم لا يملكون المعلومات، ولا شأن لهم بخطط العمليات، ويقتصر دورهم على توفير الغطاء السياسي والإعلامي للمهمات الحربية والأمنية.

وفي السنوات الأخيرة، اصطبغت الحكومات الإسرائيلية برؤساء حكومات ووزراء لم يأتوا من قلب المؤسسة العسكرية والأمنية أو يخرجوا منها منذ زمن طويل، ولا يمكنهم التحكم في تلك المؤسسات (الأجهزة) الفاعلة التي لا يُعرف بالضبط حجم الأموال التي بحوزتها، مضافا لها تغلغلها في مفاصل المجتمع وقدرتها على استقطاب وتجنيد أشخاص من مختلف المستويات والطبقات الاجتماعية، وقدرتها على معرفة أدق التفصيلات، بما في ذلك فضائح وأسرار الساسة المالية والأخلاقية، مما يعطيها عوامل قوة فائضة تحول دون قدرة أي مسؤول سياسي على تحديها، على افتراض رغبته في التحدي من الأساس، خاصة أن تلك المؤسسات هي الأكثر تأييدا وثقة في صفوف المجتمع الإسرائيلي.

أفيغدور ليبرمان كان يهدد ويتوعد ويزعم أنه لو كان صاحب قرار لفعل وفعل، خاصة ما يتعلق بقطاع غزة، وفعلا تولى بين عامي بين 2016-2018 وزارة الدفاع، وهي وزارة أهميتها في إسرائيل غنية عن الذكر، فماذا فعل؟ وماذا حدث للتهديدات التي كان يطلقها ويزايد بها على زملائه؟

الكابينيت وأفيغدور ليبرمان مثلا

ولكن، هل يعني ذلك أن المجلس الوزاري المصغر للشؤون السياسية والأمنية (الكابينيت) في إسرائيل خاضع لرؤية وخطط ضباط الجيش والمخابرات؟ وأن الوزراء مجرد واجهات للتصديق على ما يقرره الضباط فقط؟ نعم، هذه حقيقة يفترض أنها بدهية، ولكن محللين وسياسيين يحسبون وزيرا مثل بن غفير مثلا صاحب قرار، وهو الذي يأخذ إذنا لاقتحام المسجد الأقصى من الشاباك، وهذا ليس سرا!

ولو أردنا أن نضرب مثلا على طبيعة الدولة العميقة فيما يخص شؤون الحروب والعمليات العسكرية في إسرائيل، فلنتحدث عن أفيغدور ليبرمان الذي كان يهدد ويتوعد ويزعم أنه لو كان صاحب قرار لفعل وفعل، خاصة ما يتعلق بقطاع غزة، وفعلا تولى المذكور بين عامي بين 2016-2018 وزارة الدفاع، وهي وزارة أهميتها في إسرائيل غنية عن الذكر، فماذا فعل؟ وماذا حدث للتهديدات التي كان يطلقها ويزايد بها على زملائه؟

نستطيع تفسير ابتلاعه لتلك التهديدات والعنتريات والمزايدات الإعلامية بأن الرجل جلس مع الضباط الكبار ومَن دونهم وحصل منهم على معلومات بحقيقة الأوضاع الميدانية والحسابات العسكرية والأمنية التي لا يمكن نشرها عبر الإعلام إلا عن طريق تسريبات مدروسة هنا وهناك، فاقتنع بوجهة نظرهم.

أو أنه أدرك أن هؤلاء يملكون من المعلومات عنه شخصيا وعن ملفات فساده والنفوذ وعوامل القوة ومفاعيلها المتراكمة عبر عقود، وهو ما يجعله غير ذي صلة في قرارات حساسة، خاصة أنه ليس ابن المؤسسة ولم يتدرج فيها -مثل رابين وباراك مثلا- أو ربما للسببين معا، والنتيجة أن مجموعة ضباط محترفين هم من يمسك بمفاتيح قرار الذهاب إلى عملية عسكرية في غزة وغيرها وحجم وتوقيت ومدة تلك العملية، شاء الجالس في مكتب الوزير أم أبى!

المطلوب من المحللين

في كل الأحوال، يجب أن يكف أصحاب التحليل السياسي المتمسك بنظرية أن الحروب الإسرائيلية وراءها تثبيت شخص في منصبه ورغبته في التهرب من مشكلات داخلية عن تجاهلهم لحراس البوابة (الدولة العميقة)، لأن معرفة الواقع تساعدنا كثيرا في تحديد خياراتنا ومساراتنا، وقد يحتاج الأمر إلى مزيد من الشرح والتبيين لاحقا، بعون الله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.