سنعود.. هذه هي الحقيقة الثابتة كالشمس يا زلفاء ومسعد، سنعود للمدينة التي تخرج كالعنقاء من براثن الموت، سنعود للخرطوم، التي سكنها إنسان العصر الحجري، ثم نبتت فيها مملكة سوبا، ثم نبتت قراها في عصر سنار حاملة كل قرية على حدة اسم كرتوم.. الذي غدا الخرطوم لاحقا، هكذا نبتت من هذه الأرض، لم تنتظر تخطيط الأتراك لها، لكنها سبقت ذلك بكثير..
سنعود للخرطوم، لا تقلقا يا زلفاء ومسعد..
سنعود، وسيطمئن الراقدون تحت الثرى على مدينتهم التي ضمت أدعيتهم، وابتهالاتهم، وأشعارهم، وألحانهم، وآمالهم، حينما صدح الرباطابي ذات يوم بعيد..
من أم در يا ربوع سودانا نحييك وأنت كل آمالن..
سنعود يا زلفاء، ومسعد، سيعود سوق أم درمان القديم الذي احتضن قصص أم درمان، احتضن الشماليين، وأبناء الغرب، والجنوب، والشرق، والوسط، احتضن الإغريق، والأقباط، فنافسوا السودانيين في السودنة
سنعود وسيطمئن الشيخ حمد ود ام مريوم، والشيخ خوجلي أبو الجاز، والشيخ إدريس ود الأرباب، واب جنزير، وحمد النيل، والإمام المهدي، والخليفة التعايشي، ودفع الله الصائم ديمة، والشريف الهندي، والسيد علي الميرغني، والسيد عبد الرحمن المهدي، والأدارسة، ومحمد هاشم الهدية، وأحمد حسون، ومحمد أحمد ناجي، وميرغني أبو الفتح، وكرومة، وسرور، وإبراهيم عوض، والكابلي، ووردي، وعثمان حسين، وحسن عطية، وأولاد شمبات، وثنائي العاصمة، ورمضان حسن، والعبادي، وأبو صلاح، وسيد عبد العزيز، ومحمد بشير عتيق، وعبد الرحمن الريح، وعبيد عبد الرحمن..
سنبقى.. وسنعود يا زلفاء، ومسعد، ستبقيان كذلك، وسيبقى هؤلاء وآلاف لم أذكرهم، وسيزول كل هذا الدخان، والبثور التي تتفقأ، حينها يتطهر جسد الوطن، ويتنقى، ويعود غضا طريا بضا كما كان، سيزول هذا، وتعود أحاجي الصبا، وشارع جدي محمد علي خواجة الذي آثر سكان حي الصحافة إطلاق اسمه على شارع احتضن دكانه في زمن مضى، سيعود العم أحمد حسن لمكتبته الضخمة التي تسللت إليها ذات يوم بعيد، وقلبت فيها كتاب الأمة القطري الإصدار الذي تناول فيه محمد المنتصر الكتاني عن عودة الإسلام للأندلس، وأدهشتني قصة دالاس أنفاتني فيه..
ستعود قبة مسجد جدي التاج كلمون في حي الرميلة، وترمم مجددا، كما تركها عندما أغمض عينيه قبل شهور قليلة من الكارثة التي نعيشها، مضى وسورة الصافات ترن في أذنه، كما كان يحبها تماما، فلكل مقام معلوم، والملائكة، والصالحون صافون مسبحون..
سنعود يا زلفاء، ومسعد، سيعود سوق أم درمان القديم الذي احتضن قصص أم درمان، احتضن الشماليين، وأبناء الغرب، والجنوب، والشرق، والوسط، احتضن الإغريق، والأقباط، فنافسوا السودانيين في السودنة، فمن يناقش في سودانية جورج مشرقي، وديمتري البازار يوناني الأب، دنقلاوي الأم، من يجرؤ على مساءلة كونتوميخالوص، وجوانيدس، وقارو قانيان، وكوركين إسكندريان الأرمنيين؟
سنعود يا زلفاء ومسعد، وستعود ذكرى عبد الفضيل ألماظ، وعلي عبد اللطيف ابن الأب الشمالي، والأم الدينكاوية، والذي ظل يردد لزوجته: التراب الأسود لا يسير عليه الإنجليزي الأبيض مرفوع الرأس، لا يسير عليه إلا سوداني أسود..
سنبقى نمدح النبي صلى الله عليه وسلم، ونغني الدليب، والعرضة، والمردوم، والجراري، ونشدو لدار ام بادر
سنعود، لن نضطر للقول..
نفيت واستوطن الأغراب في وطني.
سنبقى، ويرحلون، سنبقى رغم ترويعهم، ونهبهم، سنبقى يا زلفاء ومسعد، وآلاف الأطفال الطيبين الأبرياء الذين روعوا، سنبقى يا كل حرة عفيفة تعرضت للأذى، سنبقى يا كل مغترب نهب شقاء عمره، سنبقى يا كل تاجر كسب بالحلال، فتبخرت آماله تحت أقدام الصائل، سنبقى، ونعود..
سنبقى نمدح النبي صلى الله عليه وسلم، ونغني الدليب، والعرضة، والمردوم، والجراري، ونشدو لدار ام بادر، ونخيل القولد، وبورتسودان عروس البحر، سيرحل تتار الزمن الراهن، ويعود الوجه الحقيقي للإنسان السوداني، سيتألق ابن دارفور، ويتبسم ابن كردفان، سيعلق الرباطابي تعليقاته الساخرة، ويطلق البجاوي آهاته الطويلة منتظرا ردود الجبال عليه.
ستؤذن يا مسعد كما اعتدت أن تفعل في مسجد حيك، وستعود زلفاء لألعابها، وستعود الأذكار، والمديح النبوي، ودروس العلم في المساجد، ستضاء القناديل، ويستمع الناس لمحمد الأمين إسماعيل مفسرا القرآن، وستصدح المكبرات بالمديح النبوي مجددا، ستمتلئ ساحة الأدارسة بالموردة، سيعود أبناء العزوزاب لأزقتها الضيقة، والكلاكلة لصخبهم اليومي، سيعود أبناء حلة حمد وخوجلي، وأبناء توتي لرطانتهم، وحواريهم، وملتقياتهم، وسيعود صخب سوق أم درمان الكبير، ستضج السماء بتكبيرنا يوما.. حينما نعود، سيكون هذا قريبا حتما، وحينها لا عزاء لمن طافوا حول وثن السلطة تاركين حب الوطن..
فنحن جند الله جند الوطن..