شعار قسم مدونات

الإجابة.. أردوغان

إسطنبول.. 1.7 مليون شخص يحتشدون في تجمع انتخابي لأردوغان (محدث) خلال حفل افتتاح المرحلة الأولى من "حديقة الشعب" التي تقام بموقع مطار أتاتورك
1.7 مليون شخص يحتشدون في تجمع انتخابي لأردوغان خلال حفل افتتاح المرحلة الأولى من "حديقة الشعب" التي تقام بموقع مطار أتاتورك (الأناضول)

لا يمكن اختصار الحكاية "الأردوغانية" في مقالة واحدة، نظرا لحجم التحولات التي أحدثها أردوغان في تركيا فكرا، ودولة، وفلسفة، ودورا خارجيا، والحقيقة أن فلسفة الدولة التركية ذاتها، ودورها في حياة مواطنيها، ودورها الخارجي في المنطقة بل والعالم قد اختلف، فلا شك أنه فعلا يشبه السيمورغ وهو طائر ذو 30 جناحا يقترب من فكرة الرخ عند العرب.

فتركيا اليوم هي السيمورغ أنكا أو العنقاء التي نهضت مجددا بعد قيود 100 عام مضت، فالجمهورية المقيدة بقيود تسويات الحرب العالمية الأولى، والمقيدة داخليا بخلل هوية مزمن أفضى إلى وضع مرهق سواء في التنظير السياسي، والإدارة الداخلية، أو حتى الاتجاه الاقتصادي عدا عن غياب الدور لمساحة إقليمية محدودة، وقاصرة على خدمة حلف شمال الأطلسي "الناتو" (NATO) كقاعدة متقدمة في مواجهة الاتحاد السوفياتي، وفي الوقت ذاته، كانت منشغلة بملفات عالقة كالأكراد، ومناكفات الأرمن، وما شابه.

كل هذا يقود لفهم الفارق الفلكي بين قيمة تركيا ووزنها الإقليمي والدولي قبل 20 عاما، واليوم، ولم يكن يدور بخلدي وأنا في نهاية الثانوية، أن هذا كله سيحدث في تركيا، ففي ذهني أن أردوغان قناع جديد للحركة الإسلامية التركية، وأنه سيحاول فعل الخطوات الأربكانية التقليدية التي تنتهي في العادة بانقلاب.

القفزات التي تحققت بالتخلص من التضخم، والانهماك في التصنيع، ومحاولة التطور في هذا المجال، جعلت تركيا شيئا مختلفا في 4 سنوات فقط، وهذا ما يدعو للدهشة، والإعجاب

لكن أردوغان اتضح فيما بعد، وبقراءتي لبعض ما يتعلق به وبمساره، أنه كان علامة فارقة جعلت منه باني الجمهورية التركية الثانية، ففي عقدها الثامن كانت الجمهورية التركية تعاني أزمة اقتصادية خانقة، وتضخما جعل العملة بلا جدوى، وأزمة سياسية مؤذية للنخبة التقليدية، وما إن أخفق كمال درويش القادم من صندوق النقد في حل الأزمة حتى جاء أردوغان.

في أحد أيام تلك الفترة المبكرة، وقف هاشم كيليج القاضي بالمحكمة الدستورية ليوضح أن "العدالة والتنمية" ليست حزبا دينيا ليتم منعه من ممارسة الحياة السياسية، فقلت في نفسي: أفلتوا من المطب المألوف، لكن ما خططهم؟ هل مجرد التقارب مع المجال الحيوي التركي في الشرق الأوسط كما جرت العادة بالرؤساء الأتراك ذوي الميول الإصلاحية كعدنان مندريس، ومحمود جلال بايار، وتورغوت أوزال؟ أم سيكون أكثر تصريحا بميوله الإسلامية كأربكان؟

المهم أن المسار التركي بدا مختلفا هذه المرة، فصحيح أنه بدأ بحراك شرق أوسطي حيوي، لكن القفزات التي تحققت بالتخلص من التضخم، والانهماك في التصنيع، ومحاولة التطور في هذا المجال، جعلت تركيا شيئا مختلفا في 4 سنوات فقط، وهذا ما يدعو للدهشة، والإعجاب.

يقولون عنه "العثماني الجديد"، ويقولون "السلطان الجديد"، الغرب اليوم يتعامل معه بعداء سقطت معه ورقة التوت المدعوة بالمهنية، الكل يهاجمه بذاكرة تاريخية تختزن التركي الغازي، ولا تستطيع فهم الأمور بالموضوعية المدعاة، كأنما يريدون تركيا القديمة العجوز التي يغطي الغبار آثارها العثمانية والبيزنطية، وتواجه مشكلة في التعامل مع مكونات الشعب المتنوعة بداية بالأكراد، وانتهاء بالسريان.

أردوغان القادم من حي قاسم باشا، حي أولاد إسطنبول "القبضايات"، المعروف بتقاليده الصارمة، ومثله العليا، يتحول عبر مسار مركب جمع ثانوية من مدارس "إمام خطيب"، وشهادة البكالوريوس في الاقتصاد والتنمية، علاوة على لعب الكرة حتى مستوى الاحتراف، مرورا بحكاية السياسة، وتفاصيل الفكر الإسلامي التقليدي، والذي حاول طويلا الصمود في تركيا الخلافة العثمانية التي لم تعد كذلك.

تركيا الحديثة في عامها الـ100 جمهورية تختلف حتى عما كانت عليه قبل 20 عاما، فهي اليوم مع أردوغان أكثر اتساقا، وتصالحا مع نفسها، وأكثر إدراكا لدورها، وفاعلية فيه، تتغلب على وعثاء السياسة، وتنوع في الأساليب، وتتحرك في الاتجاهات، في حين يقف أردوغان بثباته ذاته، ومبادئه نفسها.

هذا التركيب في المسارات، والمعارف، والمهارات لا يتمتع به في التاريخ إلا القلائل، فعبد الرحمن الداخل، وأبو مسلم الخراساني، وأبو جعفر المنصور، من هذا النمط الذي كان يحسن أشياء عديدة، يبدو فيها التناقض، لكن يجمعها التفرد.

سياسات أردوغان بدا واضحا اتساقها في إحياء الهوية التركية الإسلامية، فهو يحب محمد عاكف، ومولانا جلال الدين الرومي، وفي الوقت ذاته، يتفهم الجمهورية، والفكر السياسي المعاصر، ويتعامل في الاقتصاد بمنطق المعاصرة، والحداثة، تنطلق السياسة من فهم لجغرافيا تركيا، وجغرافيتها السياسية تحديدا، وانطلاقها من دور إقليمي، وعالمي تستحقه، فهي وريثة الإمبراطوريات، وليس هذا عبثا، فالموقع، والموارد، والإرث، والإمكانات، تؤهل لمثل هذا الدور.

إن تركيا الحديثة في عامها الـ100 جمهورية تختلف حتى عما كانت عليه قبل 20 عاما، فهي اليوم مع أردوغان أكثر اتساقا، وتصالحا مع نفسها، وأكثر إدراكا لدورها، وفاعلية فيه، تتغلب على وعثاء السياسة، وتنوع في الأساليب، وتتحرك في الاتجاهات، في حين يقف أردوغان بثباته ذاته، ومبادئه نفسها، ولو اختلفت المواقف قليلا نظرا لمقتضيات الظرف، لكن.. يبقى أردوغان قصة زعيم كان جيلنا محظوظا بأن عاصرها، واطلع عليها، وقرأ.

الفوارق تصنعها الظروف، ويبدعها الرجال، وبمقدار بقاء الأثر يكون قدر المؤثر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.