نفرّ من قدر الله إلى قدر الله، وحدها تسأل تلك التي تستيقظ كل صباح منذ الساعة الرابعة وأحيانا أخرى قبل ذلك لتقيم النوافل، تجهز المنزل وتعدّ طعام الفطور لعائلتها، وتستعد لتنطلق في رحلة الحياة عند الساعة الخامسة والنصف، نعم عندها بالضبط.
ترتاح جنبات قرية النصارية في شمال شرقي مدينة نابلس، تمتزج القرية من سكان شتى القرى المجاورة أو القرى المهجرة، لتتجانس همومهم. قرية العناء وتكبّد المشقة حسب قول سكانها؛ فمعظم من يقطن في القرية تعود جذورهم إلى الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967، يمتهن سكانها الزراعة وتربية المواشي قبيل تدشين فكرة المصايف فيها والتوسع في المشاريع السياحية.
دعونا نعود إلى الوراء قبل ذلك.
على حاجز الحمرا
بحلول الساعة الرابعة فجرا من كل يوم تتعالى الصيحات أمام المحال التجارية لشراء طعام الفطور، مئات ينتظمون في طابور صباحي للتوجه إلى العمل في حقول القرية، أو إلى الطريق المؤدية للعمل في المستوطنات الزراعية، فبعد أن تكون سيد أرضك تصبح خادمها لقلة الحيلة.
على بعد 5 كيلومترات من القرية عليك أن تقود سيارتك بلطف شديد، وأن تتأكد من حملك لبطاقتك الشخصية، ويضاف إلى ذلك خلوّك من أي أداة حادة، لن تجد عبارة أمامك مكتوبا عليها "تمهل، أمامك منعطف خطر"، بل هما فوهتا بندقية يحملها جندي لا يتعدى 20 عاما يشير إلى السيارات بالوقوف أمام الحاجز؛ حاجز الحمرا للتفتيش.
لعلي أستخدم صيغة الأنثى في الحديث، ويعود السبب لأن أغلب العاملين في القطاع الزراعي من النساء.
الوصول إلى العمل
كل يوم يتكرر السؤال نفسه: هل من مفر؟ رحل رجل المنزل فكانت أبا وأما وأختا في الوقت نفسه، في فلسطين وحدها عندما يموت الرجال تخرج النساء للعمل، وفي معظم الأحوال تخرج الفتاة الكبرى للعمل كي تتمكن الأم من رعاية أطفالها، راتبها الشهري لا يتعدى ألفي شيكل، ذاك 100 وأخرى 200 لينصرم الشهر مع ديونه، يداها خشنتان لأنها عرفت الأرض قبل أن تبتسم لها الشمس صباحا، لأن شمس الأغوار تستيقظ قبيل شموس العالم.
دعك من كل هذا، فهي مجحفة بحق جسدها، وتعمل في الحقل قبيل ساعات المغرب، وتعود كي تعدّ طعام العشاء، تجزّ العشب من الأرض، تقص السبانخ والزعتر، تقطف حبات الكوسا وبعضا من الباذنجان، الاستراحة لا تتعدى نصف ساعة طوال النهار.
ترتشف كوبا من الشاي وتتناول رغيف خبز قد أعدّته في المنزل، لتكمل عملها اليومي، لا إجازات في عملها، لا استراحات، تداعبها حرارة الصيف حينا وبرد الشتاء حينا آخر.
ساعات عمل طويلة
وحدها المواطنة (س) تقول إن "العديد من سيدات مجتمعنا ممن يعملن بالزراعة لا يرغبن بتولّي المهنة لمن هن أصغر سنا"، متمنية لهن مستقبل أفضل من هذا، في إطار ظروف العمل الصعبة وساعات العمل الطويلة التي تقضيها المرأة فيه.
وتضيف (س) "في كل الأعمال توجد إجازات، وبالحديث عن الإجازات في العمل تقتصر الإجازة على أيام الشتاء الماطرة وإجازات العيد".
وتكمل (ص) "عندما يتحدث العالم عن حقوق المتعلمات في الدول العربية أجمع يتناسى العالم قطاع الزراعة، مع العلم بأن دولا عدة يقوم اقتصادها على الزراعة، وتهتم بما تنتجه تلك الفئة المهمشة غير المدرجة على لوائح العمالة. في فلسطين لا ضمان في العمل، لا علاوات كما في قطاعات العمل الأخرى، لا ضمان سوى جهدك المبذول في العمل".
العمل وسيلة لكسب المال
وتنوّه (ص) بأن العمل وسيلة لكسب المال، فلا توجد سنة تقاعد بالعمل، وأيام العمر محسومة حيث تستطيع احتساب عمرك فقط عندما تذهب إلى الطبيب لينتهي بك المطاف بأمراض كالضغط والسكري، "نحن نستمر بالعمل، لكن إن توافرت فرص عمل أفضل من ذلك بإمكاننا اختيار الأنسب بالعمل".
وتنهي (ص) حديثها "حاولنا من قبل مرات عدة تأسيس جمعية لتجميع النساء المهمشات، ولكنها فكرة باءت بالفشل؛ فالمكان غير متوفر والإمكانات المادية غير كافية".
وبكلمة العاملات جميعهن "الأغوار جميل لكن لغير سكانه، تماما كالوطن الذي يسكن فينا ولا نسكن فيه"، والريف بنظر النساء جميل بمناظره الخلابة.
ولكنه يحرم سكانه لذة التمتع به كونه يفرض عليهم العمل المتواصل، فالصيف أشبه بالخريف والشتاء أشبه بالربيع، ويبقى السؤال المطروح: أين المفر؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.