دعتني أمي في عام 2014 لمشاهدة طبيب نفسي كبير يستضيفه برنامج تلفزيوني أسبوعي ليجيب عن تساؤلات من يتصل به من المشاهدين، وقد رأت أمي أنه سيحظى بإعجابي وهو ما قد كان، فصرت أحرص على مشاركتها المشاهدة لهذا الأستاذ المرموق لأسمع منه وأستفيد. وفي إحدى الحلقات اتصلت مشاهدة مستغيثة بالطبيب وصوتها مفعم بالحزن وكانت على وشك البكاء فأثارت مشاعر الشفقة على وجه المذيعة بوضوح؛ إذ قالت إنها أرملة ولديها 3 أولاد وقد تفرغت بعدما ترملت لتربيتهم والإنفاق عليهم بكل ما استطاعت حتى تعلموا أحسن تعليم -على حد قولها- لكن حدث ما أوجعها أن تزوج الثلاثة رغما عنها وبلا علمها وعلى غير موافقتها، وكان سؤالها: "هل هذا يكون جزائي بعدما تفانيت في تربيتهم؟ وماذا عساي أن أفعل الآن؟ وأنا أشعر بأن عندي أمراض الدنيا".
وجاء رد الطبيب مثيرا، فبدلا من أن يتعاطف معها ويشفق عليها راح يقول لها: "أود إخبارك بشيء مهم يغفل عنه كثير من الآباء والأمهات، هو أن إنجاب الأولاد لا يعني امتلاكهم، وإنفاقك على أولادك وتربيتك لهم حقهم عليك حتى يصيروا شخصيات مستقلة قادرة على اتخاذ القرار، وهذا منتهى النجاح لكل أب وأم، لذا أنصحك بتغيير طريقة تفكيرك للتغلب على الأزمة، وأن تتواصلي مع أولادك وتتقبلي اختياراتهم؛ فلعلهم فعلوا ما فعلوا فرارا من التحكم والتسلط اللذين قد يؤديان إلى التخبط في التصرفات والخيارات". ولا أنسى تحول مشاعر المذيعة التي بدت على وجهها نتيجة لتعاطفها وإشفاقها إلى الدهشة وتأمل عقلانية الطبيب.
قال الفقيه: "أود إخبار كل أب أنه ببلوغ ابنك مبلغ الرجال قد أصبح أخا لك وفق الشريعة الإسلامية، فما نراه اليوم من أنصاف الرجال وأنصاف النساء هو نتيجة تسلط الآباء والأمهات الذي أدى إلى عدم قدرة الأولاد على اتخاذ أبسط القرارات".
وفي عام 2021 كنت من متابعي أستاذ مرموق في الفقه الإسلامي على موقع يوتيوب، وقد اتصل به ذات مرة أحد المشاهدين يشكو أباه الذي يتحكم فيه ويتسلط عليه وعلى زوجه، وأنه يعيش حياة تهيمن عليها التعاسة والشقاء من جراء ذلك، وأنه يخشى عقوق والده لو أنه رفض له طلبا يكلفه فوق طاقته.
وما إن سمع الفقيه الكبير هذا الكلام حتى انفعل انفعالا وراح يقول: "أود إخبار كل أب أنه ببلوغ ابنك مبلغ الرجال قد أصبح أخا لك وفق الشريعة الإسلامية، فما نراه اليوم من أنصاف الرجال وأنصاف النساء هو نتيجة تسلط الآباء والأمهات الذي أدى إلى عدم قدرة الأولاد على اتخاذ أبسط القرارات، وأود أن أنادي بأعلى صوتي لأقول للآباء والأمهات: أنتم لا تملكون أبناءكم، إنكم مستأمنون عليهم إلى أن تأخذوا بأيدهم إلى بر الأمان، وهو بلوغ الأولاد مبلغ الرجال وبلوغ الفتيات مبلغ النساء حتى يصبحوا شخصيات مستقلة يعتمد عليهم ويدخلون السرور على أنفسكم وتبتهجون بمصائرهم".
في الواقع، سررت بهذا الرد للعلامة الفقيه خاصة عندما تذكرت ما سمعت من الطبيب النفسي، فمن دواعي سرور المرء أن يتحقق إيمانه بالشريعة التي يؤمن بها، فقد صدق العلم الشريعة.
لتتخيل ابنك أو ابنتك شخصا يعتمد عليه تستأمنه على شيخوختك بعدما استأمنك الله على طفولته، ولا تخشى عليه من الضياع بعد مماتك، وعندئذ فقط سوف تتبين أن ابنك هو مشروعك الناجح.
وأرى أن فحوى المكالمتين المتباعدتين زمنيا القريبتين من حيث المعنى قد وضع أيدينا على مأساة مجتمعنا أو بالأحرى ضياع أغلب أفراد مجتمعنا فصرنا نجد رجالا ونساء عاجزين عن مواجهة المشاكل التي تعرض لهم والخروج بالحلول المناسبة لها، وأرى أنه إنقاذ لحالة الضياع التي يعيشها المجتمع صغارا وكبارا.
فما رأيك يا قارئي العزيز أن تتخذ ابنك الصغير مشروعا من مشروعاتك في الحياة وليكن أهمها لديك، فإن أعظم استثمار هو الاستثمار في الإنسان، فما بالك لو أن هذا الإنسان هو ابنك؟ ولتتخيل ابنك أو ابنتك شخصا يعتمد عليه تستأمنه على شيخوختك بعدما استأمنك الله على طفولته، ولا تخشى عليه من الضياع بعد مماتك، وعندئذ فقط سوف تتبين أن ابنك هو مشروعك الناجح وهذا عنوان سلسلة من مقالاتي التي سأنشرها تباعا بإذنه تعالى.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.