شعار قسم مدونات

حرابة الخرطوم.. ليست الأولى

الجيش السوداني يتهم الدعم السريع بحشد قواته داخل العاصمة
اختصرت الخرطوم بتوسعها مشكلة التنمية، ولخصت دائما الصراع السياسي (الجزيرة)

الحرابة في المفهوم الشعبي السوداني تعني الحرب والقتال المتصل بسلب ونهب، وما يجري في الخرطوم اليوم -أسأل الله أن يعجل زواله- له سوابق شتى لأسباب مختلفة، فأن يرقص الموت في مدينة وادعة كالخرطوم، ويرش الدم في الاتجاهات كافة، فإن هذا الأمر ليس نادرا في مدينة عمرها الآن 200 عام إلا قليلا.

خطط المصريون والأتراك لبناء الخرطوم في العام 1832، واستمر عمرانها الأول 53 عاما. ازدهرت المدينة، واستقطبت الجاليات المختلفة، إضافة للمواطنين من كل الأنحاء، ثم ثارت ثورة المهدي محمد أحمد بن عبد الله الحسني التي بدأت عام 1881. والثورة المهدية ثورة صوفية الجذور، انطلقت من مفهوم المهدي المنتظر، لتؤكد حلول المهدي بديلا للطرق الصوفية والمذاهب الأربعة في آن معا.

انطلقت الثورة من الغرب يقودها ابن الشمال، وتدريجيا ثار الشرق والشمال والوسط، ليحاصر الثوار الخرطوم منذ مارس/آذار 1884 وحتى 26 يناير/كانون الثاني 1885، حيث انتهى في ذلك اليوم الحكم المصري لأسرة محمد علي باشا على السودان الذي بدأ عام 1821، وواجه سكان الخرطوم شظف العيش، والتضييق عليهم من قبل قوات المهدي التي عسكرت في جنوب الخرطوم، ثم تمكنت في 26 يناير/كانون الثاني 1885 من اقتحام الخرطوم. وفي ظل فتوى المهدي بكفر من يقاتل تحت راية المملكة المصرية حينها، تصرف المقاتلون بحرية، أدت لتخريب الخرطوم خرابا شديدا، وانتهى الأمر بانتقال المهدي إلى ما سمي بالبقعة أو أم درمان، التي بنى فيها مسجده، ومنزله، ومنازل أتباعه، حيث توفي بعد 6 أشهر، وتولى الخليفة عبد الله التعايشي المنحدر من دارفور الحكم في السودان الذي امتد من شواطئ البحر الأحمر حتى حدود تشاد الحالية.

الواقعة الثانية عام 1964، وجرت يوم 6 ديسمبر/كانون الأول، وتحديدا حينما خرج جماعة من الجنوبيين لاستقبال وزير داخلية الحكومة الديمقراطية الثانية كليمنت أمبورو العائد من الخارج، ويقال إن بعضهم كان ناقما أصلا على الوزير، ولم يكن القصد استقباله بل الاحتجاج ضده، على أي حال، تأخرت الطائرة لسبب ما، فسرت شائعة مفادها أن الشماليين تآمروا واغتالوا الوزير الذي بدا لكثير من الجنوبيين ممثلهم في حكومة التكنوقراط المتشكلة بعد ثورة أكتوبر التي أسقطت الحكم العسكري الأول.

اندفع الجنوبيون في مطار الخرطوم، واصطدموا بالمكونات الأخرى، ثم بدأ الغليان يدب في الخرطوم، واستمرت الأحداث لعدة أيام. ففي اليوم الأول لم يرد الشماليون، لكن جماعات منهم طاردت الجنوبيين، فاتخذت الحكومة قرارا واضحا بجمع الجنوبيين وتأمينهم في استاد الخرطوم الضخم لاستيعابهم، ريثما تهدأ الثائرة، وفي المقابل دافع كثير من الشماليين عن الجنوبيين الذين يعرفونهم، ورفضوا التعدي عليهم، وأسكنوهم منازلهم حتى هدأت فورة الدم.

في العام 1976، حركت قوى المعارضة قواتها من الغرب عبر الصحراء، وانتشرت في الخرطوم في ساعات الفجر المبكرة يوم الجمعة 2 يوليو/تموز 1976، وبتنسيق مع وزير الدفاع محمد نور سعد بدأ الانقلاب، مواكبا عودة النميري، وكان سيتضمن التخلص منه بطريقة أو بأخرى في المطار، لكن لسبب غامض حتى اليوم أخفق محمد نور سعد في إكمال المهمة، ويقال إنه غيّر المخطط، ورغب في الانفراد بالسلطة لنفسه، فلم يعلن البيان رقم 1، وارتبكت بسبب ذلك المجموعات المسلحة القادمة من خارج الخرطوم، ويقال كذلك إن الخطة كشفت، ونجا النميري من القصف الذي استهدف طائرته، ليقتل قائد السلاح الطبي في أحد الجسور، بينما هامت القوة المهاجمة في شوارع الخرطوم، واستطاعت السيطرة على الإذاعة الرسمية، ولم تذع بيانا، وكان بعض أفراد القوة المهاجمة يسألون الناس عن القيادة العامة للقوات المسلحة. اضطرب الموقف تماما منذ الثالثة ظهر الجمعة، واجه الجيش ما جرى، لكن مات الآلاف في وسط الزحام، وسميت تلك المحاولة بانقلاب المرتزقة، فقد بلغ عدد القتلى 3 آلاف شخص لم يكونوا كلهم بالضرورة مشاركين في العملية.

كان على الخرطوم الانتظار 60 عاما أخرى، تضخمت فيها المدينة، واتسعت أضعاف ما كانت عليه، وفي صباح 30 يوليو/تموز 2005 توفي جون قرنق في حادث طائرة غامض، ومنذ الليلة السابقة كان ثمة غموض في مصير الرجل، وبدا همس يدور، وفي اليوم التالي انتشر خبر حول مقتل قرنق في الخامسة صباحا، لكن بقيت الخرطوم هادئة، وما إن تأكد الخبر رسميا وأذيع في الفضائيات حتى بدأت الصدامات. ما زلت أتذكر كلام حسن ساتي رحمه الله على الجزيرة، والذي قال أخشى من الأحد الأسود، وكان صوته متهدجا حينها، ولاح الدخان الأسود في بعض الأماكن، ثم ظهرت الصور الأولى، مواطن شمالي ملقى على الأرض في زي مدني أزرق غامق اتضح أنه مالك صيدلية، وانتشر طوفان الفوضى، وانطلقت المجاميع الغاضبة التي اعتبرت "مندكورو" قد غدر ببطلها الذي رسم لها طريقا لبناء أمة معتبرة.

احتاج الأمر 4 أيام وزيادة لتهدأ الأحوال، لكنها تركت في نفوس الشماليين حيرة تشبه حيرة الأميركيين في 11 سبتمبر/أيلول، حينما قالوا: لماذا يكرهوننا؟ أنذر سكان كثير من المناطق الجنوبيين بالإخلاء، وقتل كثير من الجنوبيين، خاصة في المناطق الشعبية التي يتكون أبناؤها من قبائل محددة. كان الأمر مؤلما لحد بعيد، على أي حال، لم تعد منتشرة تلك الأغنية التي قالت: قل معي مانغو ما عاش من يفصلنا، انهار السودان الجديد، وبدا جليا أن السودان سينقسم، فقد انقسم المجتمع.

ومع ذلك، شعر السودانيون جميعا بحزن غريب عندما انفصل الجنوب بعد 6 سنوات. كان شيئا محيرا، يبدو أن شعبنا طيب لدرجة أنه نسي ما جرى، فالأصل السلام، والمسالمة، "ونحن ناس طيبين" كما قالت الأغنية السودانية.

كان على الخرطوم أن تنتظر 14 عاما حتى محاولات فض اعتصام القيادة التي بدأت في أبريل/نيسان 2019، وتكررت في الفض المشهور في 3 يونيو/حزيران، والأيام التي لحقت، والقلق الكبير الذي واكب الأيام اللاحقة حتى العصيان المدني الشامل.

اليوم تعيش الخرطوم السيناريو المقلق، وتعيش حالا ستعقبها أحوال، ونسأل الله ألا تتضمن أهوالا.. فإن النار بالعودين تذكو، وإن الحرب مبدؤها كلام.

اختصرت الخرطوم بتوسعها مشكلة التنمية، ولخصت دائما الصراع السياسي، وعليه فما الذي ستنتهي إليه الأمور، لا أحد يملك الجزم بشيء محدد.

الله لطيف بعباده..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.