شعار قسم مدونات

بغداد التي لا تسقط

بغداد تتميز بقوة إرثها الفكري على مدار العصور (الجزيرة)
بغداد لم تسقط لأن كل جميل في العالم يذكرنا بها وكل ازدهار يحيلنا إلى مدينة السلام (الجزيرة)

منذ عام 2003 ووسائل الإعلام العربية والعالمية تجعل يوم التاسع من أبريل/نيسان كل عام ذكرى لسقوط بغداد على يد التحالف الصليبي العالمي بقيادة الولايات المتحدة ورئيسها سيئ الذكر جورج بوش الابن مجدد عهود الحروب الدينية، وتتنافس وسائل الإعلام كل ذكرى في إحصاء مصاعب العراقيين الاقتصادية والسياسية، وتعداد متاعب أهالي بغداد الاجتماعية، ورصد آثار استحالة نعمى دار السلام إلى بؤس مقيم، لكن هذه بغداد البائسة في أقلام الإعلاميين وأفلامهم تقابلها بغداد أخرى لا تسقط ولم تنل منها العوادي ولا هوج العواصف.

فبغداد القاطنة في وجداننا لا تسقط لأن الخليفة المنصور العباسي (ت 158هـ/776م) احتاط في تأسيسها فلم ينشئها اعتباطا ولا مصادفة بل اختار لها أحسن الأماكن وأكثرها مناسبة للعيش والرفاه، فهي كما قال المهندس الخبير المشرف على اختيار مكانها -في إقناعه للخليفة المنصور، مبينا أهمية موقعها الجغرافي والاقتصادي وسهولة تواصلها مع العالم- سوف "تجيئك الميرة في السفن من المغرب في الفرات، وتجيئك طرائف (تحف) مصر والشام، وتجيئك الميرة في السفن من الصين والهند والبصرة وواسط في دجلة، وتجيئك الميرة من أرمينية وما اتصل بها.. حتى تصل إلى [نهر] الزاب، وتجيئك الميرة من الروم وآمد (اليوم مدينة ديار بكر التركية) والجزيرة [الفراتية] والموصل في دجلة"، كما في "تاريخ الطبري".

بغداد لا تسقط لأنها تتراءى لنا كل أسبوع ونهفو إليها كل جمعة، فقد قيل: (من محاسن الإسلام: يوم الجمعة ببغداد، وصلاة التراويح بمكة، ويوم العيد بطرسوس)

بغداد لا تسقط لأنها في ذاكرتنا تحتفظ بألقها الأول ومكانتها السامقة حين كانت عاصمة الدنيا ووجهة الناس؛ فقد حدث يونس بن عبد الأعلى أن شيخه الإمام محمد بن إدريس الشافعي قال له: يا يونس دخلت بغداد؟ قلت: لا. قال: يا يونس ما رأيت الدنيا، ولا رأيت الناس"، والشافعي نفسه هو القائل: "ما دخلت بلدا قط إلا عددته سفرا، إلا بغداد، فإني حين دخلتها عددتها وطنا" فبغداد أرض العباقرة لا ينبغي لمثل الشافعي أن يكون فيها ضيفا، والشافعي إمام المسلمين، و"الإسلام ببغداد، وإنها لصيادة تصيد الرجال".

وبغداد لا تسقط لأنها تتراءى لنا كل أسبوع ونهفو إليها كل جمعة، فقد قيل: (من محاسن الإسلام: يوم الجمعة ببغداد، وصلاة التراويح بمكة، ويوم العيد بطرسوس)، علق مؤرخها أحمد بن علي الخطيب على عظمة الجمعة البغدادية فقال: "ومن حضر الجمعة بمدينة السلام عظم في قلبه محل الإسلام، لأن شيوخنا كانوا يقولون: يوم الجمعة ببغداد كيوم العيد في غيرها من البلاد".

وبغداد لم تسقط لأن كل جميل في العالم يذكرنا بها، وكل ازدهار يحيلنا إلى مدينة السلام  فـ "الأخلاق الكريمة، والسجايا الرضية، والمياه العذبة الغدقة، والفواكه الكثيرة الدمثة والأحوال الجميلة، والحذق في كل صنعة، والجمع لكل حاجة، والأمن من ظهور البدع، والاغتباط بكثرة العلماء والمتعلمين، والفقهاء والمتفقهين، ورؤساء المتكلمين، وسادة الحساب والنحويين ومجيدي الشعراء، ورواة الأخبار، والأنساب وفنون الآداب، وحضور كل طرفة، واجتماع ثمار الأزمنة في زمن واحد، لا يوجد ذلك في بلد من مدن الدنيا إلا بها لا سيما زمن الخريف".

تعلق المسلمين ببغداد لم يكن حلما رومانسيا ولا زفرة عاطفية بل وفاء لمدينة صاغت العقول والأفكار، ودونت المذاهب، وأصلت القواعد وفتقت البيان، وألهمت الشعراء، وخرجت المؤرخين، وحمت الثغور

فبغدادنا التي لا تسقط هي التي خلدها أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي (ت ٤٦٣هـ) في سفره العظيم "تاريخ بغداد" والذيول التي كتبت عليه، وكان من أماني المؤرخ البغدادي أنه حين "حج شرب من ماء زمزم ثلاث شربات، وسأل الله تعالى ثلاث حاجات، أخذا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ماء زمزم لما شرب له)، فالحاجة الأولى أن يحدث "بتاريخ بغداد" في بغداد، والثانية: أن يملي الحديث بجامع المنصور، والثالثة أن يدفن عند بشر الحافي، فقضى الله الحاجات الثلاث له"، كما في تاريخ "مدينة دمشق" وغيرها.

وتعلق المسلمين ببغداد لم يكن حلما رومانسيا ولا زفرة عاطفية بل وفاء لمدينة صاغت العقول والأفكار، ودونت المذاهب، وأصلت القواعد وفتقت البيان، وألهمت الشعراء، وخرجت المؤرخين، وحمت الثغور؛ فالمذاهب الأربعة المتبعة لدى غالبية المسلمين اثنان منها نشئا في بغداد الجامعة بين الأثر والنظر، والمحدثون لم يبغوا عنها بدلا وعلومهم بها توسعت نقدا وتعليلا وآداب طلب، والمذاهب الكلامية نضجت في مناظرات البغداديين، والقواعد النحوية تأصلت في بغداد، والبيان بها تجحظ وتوحد، والطرائق الصوفية في أرجائها ازدهرت، أما بغداد الحضارية واللاهية والمتأنقة فهي معروضة في الرسالة البغدادية المنسوبة إلى أبي حيان التوحيدي، وهي مما يقرأ في أيام الأعياد.، وكل عام وذكرى بغداد خالدة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.