شعار قسم مدونات

رمضان وقطر.. المواقيت المثلى للوقف

زيارة المشجعين لقطر لن تكتمل دون التجول في سوق واقف أحد أشهر المعالم السياحية في البلاد (الجزيرة نت)
مركز الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود الثقافي الإسلامي (الجزيرة)

بينما كنت أسامر البحر وأداعب الصبا، على رصيف الكورنيش عقب صلاة التراويح، على عادتي الرمضانية، إذا بسيلٍ من الذكريات يقتحم جدار ذاكرتي بعنف، كأنه يستثير وجداني، أو يستنطق قريحتي، ليسافر بي دون إخطار، إلى أيام الطفولة الأولى، وإلى حي "اللقطة" بالذات، حيث الألفة والأنس اللذان يميزان الحي في مخيلتي الطفولية عن بقية أحياء العاصمة القطرية "الدوحة".

حنين إلى الطفولة

يبدو أنني علقت في حبائل الذكريات، حتى أصبح كل شيء من حولي يجذبني إلى الماضي، أقلّب طرفي يسرة فلا أبصر إلا فندق شيراتون، أتساءل: أين ذهبت أبراج الدفنة؟ أين اختفت تلك القامات الفارهة؟ لعله الزمن طمسها حين عاد بي ربع قرن إلى الوراء، ثم ألتفت يمنة، فيستوقفني صرح الأوقاف العتيد، المعروف بمركز الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود الثقافي الإسلامي، ويذكرني هو الآخر بالوظيفة التي كان يشغلها والدي حينذاك في الأوقاف.

روحانية رمضان وقدسيته تأخذان بمجامع القلوب إلى فعل المعروف عموما، بينما تدعو منظومة الصوم إلى الصدقة خصوصا، وتلك حكمة بالغة تكمن وراء مشروعية الصيام، كونه عبادة تثير في نفس الصائم الإحساس بمعاناة الفقراء الذين لا يجدون قوت يومهم

رمضان شهر التكافل

يسرح بي الحنين بعيدا، إلى المساءات الرمضانية، في حي اللقطة العتيق، حيث أطفال الحي يتعاقبون بين البيوت المتجاورة، محمّلون بأصناف الأطباق الرمضانية التي اعتاد أهالي الحي أن يتبادلوها بينهم، تجسيدا منهم لمعاني التكافل والتواد التي يحث عليها شهر الصيام، ثم يتمثل لي جيراننا البنغاليون الذين يخصهم الأهالي بمزيد من العطف خلال الشهر الكريم.

إنه أثر الصوم على المسلم، فروحانية رمضان وقدسيته تأخذان بمجامع القلوب إلى فعل المعروف عموما، بينما تدعو منظومة الصوم إلى الصدقة خصوصا، وتلك حكمة بالغة تكمن وراء مشروعية الصيام، كونه عبادة تثير في نفس الصائم الإحساس بمعاناة الفقراء الذين لا يجدون قوت يومهم، وذلك أن الصائم إذا ذاق ألم الجوع في بعض الأوقات، تذكر من هذه حاله في جميع الأوقات؛ فرقت له نفسه وأشفق لحاله، وسهل عليه ترجمة ذلك الشعور بالرأفة والعطف إلى المساعدة وبذل المعونة.

الوقف والصدقة

وإذا كان الإنفاق على الفقراء والمحتاجين لا يتعدى أن يكون صدقة أو وقفا أو تمليكا للزكاة، فلا شك أن الوقف أعظم أجرا لديمومته، إذ إن الصدقة والزكاة ينتهي عطاؤهما بإنفاقهما، أما الوقف فيستمر باستمرار العين المحبوسة بالإنفاق في أوجه الخير حتى بعد وفاة الواقف، وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له". وقد حمل العلماء الصدقة الجارية على الوقف.

كان أول وقف في الإسلام هو مسجد قباء الذي أسسه النبي صلى الله عليه وسلم حين قدومه إلى المدينة مهاجرا، ثم المسجد النبوي، وقد أشاع الهدي النبوي في الصحابة رضوان الله عليهم ثقافة الوقف وحبس الأموال على المحتاجين

الوقف في التاريخ الإسلامي

وقد اضطلع الوقف برسالة بالغة الأثر في تحقيق العدالة الاجتماعية، عبر التاريخ الإسلامي، كما قوّى روح التضامن والتراحم بين مختلف طبقات المجتمع، بل بين الأجيال المتعاقبة.

وكان أول وقف في الإسلام هو مسجد قباء الذي أسسه النبي صلى الله عليه وسلم حين قدومه إلى المدينة مهاجرا، ثم المسجد النبوي، وأشاع الهدي النبوي في الصحابة رضوان الله عليهم ثقافة الوقف وحبس الأموال على المحتاجين، حيث يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه: "ما أعلم أحدًا كان له مال من المهاجرين والأنصار إلا حبس مالا من ماله صدقة مؤبدة لا تشترى أبدًا، ولا توهب، ولا تورث".

وفي عهد الدولة الأموية كثرت الأوقاف نظرًا لاتساع الفتوحات الإسلامية وازدهار الحياة الاقتصادية في أرجاء الدولة، فتولت الإشراف على الأوقاف إدارة مختصة تخضع للسلطة القضائية.

وفي العهد العباسي توسعت الأوقاف وتنوعت مجالاتها لتشمل الأوقاف الحضارية والمدنية كالمستشفيات والمكتبات ودور الترجمة ومعاهد التعليم وغيرها.

أما في عصرنا هذا فقد ولّت كثير من الدول الإسلامية شؤون الأوقاف إلى وزارات مختصة أو إدارات تسيّر أمورها.

المصرف الوقفي لخدمة القرآن والسنة تنصب وظيفته على دعم مراكز ودور تعليم القرآن الكريم في قطر، ورفع طاقتها كمًّا وكيفًا، وأنجز المصرف خلال العام الماضي 112 مركزا قرآنيا للذكور، و22 مركزا قرآنيا للإناث

النموذج القطري

وفي دولة قطر (نموذجا) سعت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية إلى تحقيق مبدأ شمولية العمل الوقفي، فأنشأت مصارف وقفية مختلفة؛ اختلاف نواحي الحياة الدينية والاجتماعية والثقافية والصحية فأعان ذلك المتبرعين على أن يختاروا من بين المجالات المتنوعة للوقف ما يناسب اهتمامهم.

فمن الناحية الطبية، أنشأت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في قطر المصرف الوقفي للرعاية الصحية، الذي يساعد المرضى المحتاجين في نفقات العلاج وشراء الأدوية، ويوفر غسيل الكلى لعدد كبير من المحتاجين، بعدد غسلات يناهز 13 ألف غسلة سنويا.

كما يدير المصرف مشروعا رائدًا لزراعة القوقعة الإلكترونية، للمساهمة في إرجاع حاسة السمع للأطفال الصم، استفاد منها 77 طفلا في قرغيزيا وفلسطين خلال العام الماضي.

ويقوم المصرف أيضا بدعم الطلبة من ذوي الإعاقة، من خلال توفير البيئة المحفزة لهم على الإبداع، كما يدعم المؤسسات القائمة على رعاية المصابين باضطراب طيف التوحد، بتهيئة مقرات لها ودعم أنشطتها وبرامجها المختلفة.

أما المصرف الوقفي لخدمة القرآن والسنة، فتنصب وظيفته على دعم مراكز ودور تعليم القرآن الكريم في قطر، ورفع طاقتها كمًّا وكيفًا، وقد أنجز المصرف خلال العام الماضي 112 مركزا قرآنيا للذكور، و22 مركزا قرآنيا للإناث.

ويدير المصرف مشروعا لطباعة المصحف الشريف، وآخر لطباعة كتب التفسير والسنة، كما يدعم المسابقات التي تنظمها المدارس والجامعات في حفظ القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف.

تجدر الإشارة إلى أن المصرف الوقفي للبر والتقوى هو المصرف الأم، ويهدف إلى توصيل رسالة الإسلام السمحة، والتعريف بالثقافة والحضارة الإسلامية، وتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها عن طريق مركز الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود الثقافي الإسلامي.

كما يدير المصرف مشاريع تعنى بإغاثة المنكوبين، وحفر الآبار وقضاء الديون عن الغارمين، وإفطار الصائمين في الشهر الفضيل.

ولتعزيز التنمية العلمية والثقافية، تم إنشاء المصرف العلمي للتنمية العلمية والثقافية الذي يموّل بدوره إحدى أقدم المكتبات الوقفية في قطر، ومعهدا دعويا لتخريج الأئمة والدعاة، كما يموّل موقعا إلكترونيا رائدا يعنى بنشر العلم الصحيح والفتاوى والاستشارات والكتب والمقالات، ويهدف إلى توصيل المعلومة الصحيحة بعيدًا عن التطرف والأفكار المنحرفة.

ويقوم المصرف برعاية الطلبة المحتاجين في المراحل الأساسية، ويقدم لهم منحا دراسية للمرحلة الجامعية والدراسات العليا، استفاد منها العام الماضي 165 طالبا داخل قطر، بالإضافة إلى 17 طالبا تم منحهم إلى جامعة أكسفورد.

وبغية إحياء رسالة المسجد في المجتمع، فقد أقامت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في قطر مصرفا مختصا ببناء المساجد وصيانتها والاهتمام بنظافتها ورعايتها.

ومن خلال إحصائية العام الماضي تبين أن المصرف قام ببناء 64 مسجدا وبيت إمام، إضافة إلى إقامة 173 مسجدا وبيت إمام لا تزال قيد التنفيذ.

ويبقى من الملّح أن تجرى دراسات معمقة تتناول النموذج القطري في إدارة الوقف وتسييره، حتى يتسنى للدول الإسلامية التي لا زالت ناشئة في هذا المجال الاستفادة من نجاحات هذه التجربة الرائدة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.



إعلان