كيف أسّست الماسونية الجمعية الملكية؟ (20)

الجمعية الملكية للعلوم بلندن تفتح أبوابها أمام الزائرين
السرد التاريخي للماسونية يؤكد دورها في تأسيس الجمعية الملكية البريطانية (الجزيرة)

أشرت بصورة عابرة في المقال السابق الذي تناول "كيفية هيمنة الماسونية على حركة التنوير في بريطانيا"؛ إلى أن أيادي الحركة الماسونية لم تكن بعيدة عن تأسيس الجمعية الملكية. ولم يكن هذا الاستنتاج من باب التزيّد والافتراء والمبالغة أو مجافاة الحقائق التاريخية، بل كان مبنيا على ما تقدّمه الوثائق الماسونية نفسها حول دور الحركة الماسونية في تلك الفترة.

ولمّا كانت هذه المسألة على درجة عالية من الأهمية في تناولنا لعصر التنوير، وتتبعنا لدور الحركة الماسونية فيه، وما أعقبه من توسع وانتشار في فرنسا والولايات المتحدة وسائر الدول الغربية، كان لا بد لنا من العودة إلى الفترة التي سبقت تأسيس الجمعية الملكية، لتوضيح ذلك الدور بصورة لا تترك مجالاً للشك والتردد، وسنرجئ الحديث الذي كان مقررا لهذا المقال عن دور الماسونية في حركة التنوير الفرنسية.

السرد التاريخي لدور الماسونية في تأسيس الجمعية الملكية البريطانية؛ يقطع الشك بصحة هذا الدور، ويظهر حجم تحكم الماسونية في الخطاب التنويري الصادر عن الجمعية، وما يتضمنه من أفكار ومفاهيم ونظريات ومعارف وعلوم، أسهمت في إعادة بناء العالم

علاقة خاصة!

تأقلمت الحركة الماسونية المعاصرة بصورة مدهشة مع ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصال والتواصل والتفاعل، وأخرجت الكثير من أسرارها ووثائقها التاريخية وخططها وبرامجها، وغيّرت من سياساتها العنصرية ضد المرأة والملونين والملاحدة وأصحاب الأديان والملل الأخرى، وأعلنت عن هياكلها ورؤسائها وأعضائها، ومع ذلك لم تستطع أن تزيل ستار السرية والغموض تمامًا عن ماضيها وحاضرها، وهذا ما لا نجده حادثا مع أي منظمة سرية على مر التاريخ، وستظل الماسونية على هذه الشاكلة حتى نهاية الزمان. ومن هنا، فإن أي موضوع يتصل بالماسونية من قريب أو بعيد، ينبغي تناوله بحذر شديد، بعيدا أن أي مواقف مسبقة، مؤيدة أو معارضة، حتى لا يؤثر ذلك على منهجية التناول والنتائج المترتبة عليه.

لقد كان للعلاقة الخاصة بين الماسونية والإمبراطورية البريطانية، دور كبير في تمهيد الطريق أمام الماسونية للانتشار والعمل والتأثير وإعادة تشكيل المجتمعات الغربية، على وجه الخصوص. في كتابها "بناة الإمبراطورية: الماسونية والإمبراطورية البريطانية (1717-1927م)"، الصادر عام 2007، توضح "جيسيكا ل. هارلاند جاكوبس" أستاذة التاريخ في جامعة فلوريدا بالولايات المتحدة، أن العلاقة بين الماسونية والإمبراطورية البريطانية كانت علاقة مركزية، أسهمت الماسونية من خلالها في تعزيز تماسك الإمبراطورية من جهة، ورافقت حملاتها الخارجية لتنتشر في أوروبا والأميركتين وآسيا وأستراليا وأفريقيا، وتنشر محافلها وأفكارها ومبادئها، وتوسّع دائرة أعضائها من جهة أخرى.

إعلان

وهذا التلازم يوضح لنا في تلك الفترة من عمر الإمبراطورية البريطانية، أنه حيثما كانت الإمبراطورية كانت الماسونية، وأن كلا منهما يسهم في تحقيق أهداف الآخر، حيث أتاحت الصراعات والاضطرابات السياسية والدينية التي شهدتها بريطانيا في القرن الـ16 على وجه الخصوص؛ الفرصة الكاملة لاستغلال هذه الظروف في إعداد هياكلها ودساتيرها والتحرك لبدء عملية التغيير الفكري والديني والاجتماعي في الدولة، من خلال واجهات مؤسسية، وصولاً إلى تأسيس الجمعية الملكية عام 1660، والمحفل الماسوني الكبير عام 1717.

للعلاقة الخاصة بين الماسونية والإمبراطورية البريطانية، دور كبير في تمهيد الطريق أمام الماسونية للانتشار والعمل والتأثير وإعادة تشكيل المجتمعات الغربية، على وجه الخصوص

دور الماسونية في تأسيس الجمعية الملكية

حول دور الماسونية في تأسيس الجمعية الملكية البريطانية، نشر العضو الماسوني الكندي من أصل أيرلندي، نورمان ماكيفوي، عام 2015 في موقعه على الإنترنت، ورقة بحثية بعنوان "الجمعية الملكية والماسونية"، من إعداد العضو الماسوني ديفيد ريتشي، مسؤول التعليم في محفل الاكتشافات، مقدّمة إلى محفل فيكتوريا للتعليم والدراسات عام 2006، ومما جاء في هذه الورقة:

  • أن الملك "جيمس تشارلز ستيوارت" (1566-1625م) المعروف بجيمس السادس على أسكتلندا، والأول على إنجلترا وأيرلندا بعد توحيد التيجان الإنجليزية والأسكتلندية عام 1603م؛ كان قد التحق بالماسونية عام 1610م.
  • أن كلاً من تشارلز الأول (1600-1649م) ملك إنجلترا وأسكتلندا وأيرلندا، وتشارلز الثاني (1630-1685م) ملك إنجلترا وأستكتلندا وأيرلندا، قد تم تأسيسهما ليكونا عضوين ماسونيين، وكان الأخير قد وافق على تأسيس الجمعية الملكية في العام نفسه الذي استعاد فيه السلطة على إنجلترا وأسكتلندا وأيرلندا.
  • في عام 1597 تم تأسيس كلية في لندن على يد السير توماس جريشام (1547-1630م)، ابن عمدة المدينة، كلية غير عادية وفقًا لمعايير اليوم من حيث إنها لا تمنح درجات علمية ولا تقدم دورات، وبدلاً من ذلك كان لديها 8 أساتذة قدموا محاضرات، كل في مجال دراسته، وكانت هذه المحاضرات مفتوحة لأي شخص يرغب في الحضور. وقد استمرت كلية جريشام في تقديم هذه المحاضرات، وتعتبر حتى اليوم أقدم معهد للتعليم العالي في لندن، وكانت الكراسي الأصلية في علم الفلك، واللاهوت، والهندسة، والقانون، والموسيقى، والفيزياء، والبلاغة، والتاريخ، والطب النفسي، وكان توماس جريشام ماسونيا منذ تعيينه في منصب المسؤول العام على الماسونيين في عام 1567م.

واستمرت محاضرات جريشام في أحلك الظروف، وعندما لا يستطيع المحاضرون الاجتماع في لندن بسبب الصراع، كانوا يجتمعون في أكسفورد. وكانت من بينهم مجموعة بدأت بالاجتماع حوالي عام 1645 لمناقشة أفكار فرانسيس بيكون (الماسوني). عندما التقى العشرات منهم في عام 1660 في كلية جريشام، وبعد محاضرة ألقاها "كريستوفر رين"، قرر 12 عالما وفيلسوفا من هؤلاء تأسيس "كلية لتعزيز التعليم التجريبي الفيزيائي الرياضي"، وكانت (كلية غير مرئية)، ومن بينهم روبرت بويل وجون ويلكينز والسير روبرت موراي وكريستوفر رين نفسه (وجميعهم كانوا ماسونيين). وكانت هذه الحقبة البداية المباشرة لـ "عصر التنوير".

تذكر الورقة البحثية أن آخر 6 أعضاء في القائمة، لم تتوفر مصادر للتحقق من كونهم ماسونيين، ولكنها أشارت كذلك إلى أنه لا يوجد ما يؤكد العكس، خصوصا أن السياق التاريخي يقتضي أن يكونوا ماسونيين

هؤلاء الـ12 عالما وفيلسوفا الذين شكلوا (الكلية غير المرئية)، كانوا وراء تأسيس الجمعية الملكية، وعلى رأسهم كريستوفر رين (1632-1723م)، الذي كان مهندسا معماريا وعالما في التشريح والفلك والرياضيات والفيزياء، وكان رئيسا لأحد المحافل الماسونية التي تأسست في بريطانيا عام 1717م. أما "فيسكاونت بروكنر" (1620-1684م) فكان أول رئيس منتخب للجمعية الملكية، وأحد علماء الرياضيات البارزين في عصره، وكان ماسونيا.

إعلان

أما الثالث فهو "جونز ويلكنز" (1614-1672) فكان فيلسوفا وقسيسا متعدد المواهب، وكان المفتاح الرئيسي لشبكة تواصل المنتمين للكلية الخفية، وكان ماسونيا. أما الرابع فكان "السير روبرت موراي" (1608-1673م) القائد العام لجيش العهد الأسكتلندي عام 1641، وأحد جنرالات الجيش التي غزت إنجلترا عام 1646م. كان موراي ماسونيا، وأحد أهم أعضاء المجموعة، وفي السنوات الأخيرة من حياته، أمضى وقته في المشاركة في التجارب الكيميائية وحضور المحاضرات الفلسفية. وكان الخامس "روبرت بويل" (1627-1691م)، الذي اخترع غرفة مضخة تفريغ الهواء، وكان ملكيا وماسونيا.

أما السادس فكان "إلياس أشمولي" (1617-1692م)، وهو سياسي وضابط وعالم فلك وكيميائي، وكان ماسونيا من وقت مبكر. وكان سابعهم "أليكساندر بروس" (1629-1681م) مخترعا أسكتلنديا وسياسيا وقاضيا، وثامنهم كان "جوناثان غودارد" (1617-1675م)، طبيبا وجراحا، أما تاسعهم فكان "السير وليام بيتي" (1623-1687م) طبيبا وعالما واقتصاديا وفيلسوفا، وكان العاشر هو "وليام بال" (1627-1690م) عالما فلكيا. والحادي عشر هو "لورانس روك" (1622-1662م) وكان عالما في الفلك والرياضيات، أما الثاني عشر فهو أبراهام هيل" (1633-1721م) وهو رجل أعمال بريطاني.

وتذكر الورقة البحثية أن آخر 6 أعضاء في القائمة، لم تتوفر مصادر للتحقق من كونهم ماسونيين، ولكنها أشارت كذلك إلى أنه لا يوجد ما يؤكد العكس، خصوصا أن السياق التاريخي يقتضي أن يكونوا ماسونيين.

  • في الاجتماعات التأسيسية للجمعية الملكية التي سبقت انتخاب الرئيس، كان السير روبرت موراي يؤكد قاعدة أنه لن تتم مناقشة أي من الدين أو السياسة أثناء انعقاد الاجتماع، وهي قاعدة ماسونية أساسية ما زالت سارية المفعول اليوم. كما أصر على حفظ محاضر جميع الجلسات.
  • قامت مجموعة الـ12 بإعداد قائمة من 40 شخصا، لدعوتهم للانضمام إلى الجمعية الجديدة وحضور اجتماعاتها الأسبوعية المنتظمة، وقد استجابوا جميعا باستثناء ثلاثة فقط رفضوا الدعوة. وفي الاجتماع التالي تم تكليف (الماسوني) السير روبرت موراي بمهمة الاقتراب من الملك تشارلز الثاني للحصول على موافقته على المشروع وطلب منح ميثاق ملكي للمنظمة الوليدة. وفي اجتماع الأسبوع التالي أبلغ موراي المجتمعين بحماس الملك للمشروع.
  • أكثر من نصف أعضاء الجمعية كانوا من الماسونيين الذين أقسموا اليمين في مبادراتهم المختلفة، على حب ودعم إخوانهم، وكانت لديهم قواسم مشتركة تربطهم، لدرجة اعتقاد البعض أن "الجمعية الملكية كانت المنبع الحقيقي للماسونية الحديثة".
  • واصلت الجمعية الملكية في لندن تحسين "المعرفة الطبيعية" لتصبح الأكاديمية العلمية المستقلة الرائدة في العالم، والمجتمع المتعلم وهيئة التمويل.
  • على طول الطريق فقدت الماسونية الكثير من أعضائها الزملاء في الجمعية الملكية، لكنها لا تزال تعمل ضمن الحدود الأساسية لمؤسسيها الماسونيين الأصليين.

يقول العضو الماسوني نورمان ماكيفوي، إنه لم يكن أحد يستطيع أن يعمل شيئا في الجمعية الملكية دون موافقة الماسونية.

ولعل هذا السرد التاريخي لدور الماسونية في تأسيس الجمعية الملكية يقطع الشك بصحة هذا الدور، ويظهر حجم التحكم في الخطاب التنويري الصادر عن الجمعية، وما يتضمنه من أفكار ومفاهيم ونظريات ومعارف وعلوم، أسهمت في إعادة بناء العالم.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان