شعار قسم مدونات

ما بين الفرصة والمخاوف.. الذكاء الاصطناعي في مواجهة الأخبار الكاذبة

. هل يمكننا السيطرة على الذكاء الاصطناعي أم يسيطر علينا؟
التخطيط الصحيح والخطط المدروسة المبنية على تعلم الآلة والذكاء الاصطناعي من شأنهما تغيير مسار صناعة تدقيق المعلومات لتحقيق هدف مكافحة الأخبار الكاذبة (شترستوك)

التغيير سنة الحياة شئنا أم أبينا، وفي عصر التقنية الحالي يتخذ التغيير منحنيات سريعة يخسر فيها من يرفض مجاراتها أو التفكير في استغلال فرصها لصالح ما ينفع الناس، فالتقنية لم تعد رفاهية، وكثير من أنظمة الحياة بدونها تتوقف وكثير من الأعمال معتمدة على وجودها، ولأن الإنسان بطبعه يخشى المجهول ويعتاد التكيف مع الواقع برزت حالة من التشاؤم لدى كثيرين مصحوبة بمخاوف من التعامل مع الذكاء الاصطناعي.

ومع رواج تقنية الدردشة النصية مع الذكاء الاصطناعي "شات جي بي تي" (Chat GPT) خلال الأسابيع الماضية تسببت إجاباته في معلومات واسعة النطاق في عدة مخاوف، كاندثار وظائف في المستقبل يمكن له أداء مهماتها بنسب نجاح تفوق البشر، والقلق من انضباطه أخلاقيا حتى وصل إلى مخاوف من إمكانية القيام بأمور لا يقدر العقل البشري على الوصول إليها قد تصل إلى حد الخرافات.

والحقيقة أنه في كل فترة تمر على البشرية تظهر معها ثورات تقنية تتزامن معها حالات هلع من آثار سلبية، هذه الموجة التشاؤمية تبدو متشابهة مع الأجيال السابقة عندما ظهر التلفاز، ومرة أخرى عند ظهور الحواسيب الإلكترونية، ثم مع ظهور شبكة الإنترنت، ثم الهواتف المحمولة.

لا أنكر مشروعية هذا التفكير، لكن بدلا من إعطاء هذه المخاوف مساحة كبيرة من تفكيرنا ينبغي التفكير في الفرص التي يساعدنا الذكاء الاصطناعي على الإبداع فيها، ولنحاول أن نفهم ماهيته وطبيعته من أجل أن نضع الأشياء في موضعها.

أصبح من الخطأ القول عن تقنيات وبرمجيات كثيرة حولنا إنها تعمل بالذكاء الاصطناعي لمجرد أن فيها حاسوبا أو تقوم ببعض الحسابات بشكل آلي، كالآلة الحاسبة مثلا

قد لا يدرك البعض حقيقة أن الذكاء الاصطناعي بشكل عام ليس حديث الوجود، بل يعود المفهوم إلى القرن الماضي، فقد تم تعريفه عام 1956 في كلية دارتموث بأنه برامج حاسوبية تقوم بشكل مقنع بمهام يؤديها البشر كثيرا حاليا وتتطلب عمليات عقلية عالية المستوى، مثل: التفكير النقدي، وتنظيم الذاكرة، والتعلم الإدراكي.

وبالتأكيد، فإن المفهوم تطور منذ ذلك الحين، فأصبح من الخطأ القول عن تقنيات وبرمجيات كثيرة حولنا أنها تعمل بالذكاء الاصطناعي لمجرد أن فيها حاسوبا أو تقوم ببعض الحسابات بشكل آلي، كالآلة الحاسبة مثلا.

إجمالا، يعتمد عمل الذكاء الاصطناعي على تحليل الأنماط المدخلة إليه وما يميز كلا منها، ثم يحللها ويربط بين مجموعات كبيرة من بياناتها بخوارزميات ذكية قادرة على التحسين والتطوير.

لقد أثبت كثير من المختصين أن محاكاة قدرات العقل البشري تماما والوصول إلى درجة ذكائه وتفكيره أمر أعقد بكثير من المستوى الذي توصل إليه الذكاء الاصطناعي حاليا، وهو ما أشارت إليه التجارب المختلفة في اتهامات للذكاء العنصري بانحيازه في إجابات بعض المواضيع والعنصرية في البعض الآخر، وذلك يرجع إلى أن عملية التفكير لدى البشر توجد فيها ميزة التعلم من التجارب السابقة في التفكير لحل أمور حالية، وتفكير العقل البشري في البيئة والمحيط والمشاعر بشكل منطقي، مما يؤكد أن الإبداع ميزة فريدة لدى العقل البشري لا يوفرها الذكاء الاصطناعي.

فمثلا إذا كتبت سؤالا لـ"شات جي بي تي" عن شيء ما بالعربية فستحصل على إجابة مصوغة بكلمات تشعرك بمدى عالٍ من الموثوقية، وإذا كررت السؤال نفسه باللغة الإنجليزية فهناك احتمال كبير أن تحصل على إجابة مختلفة بنفس القدر من الثقة التي يصبغ عليها الطابع البشري.

نشهد اليوم نتائج غير مسبوقة في تطبيق "شات جي بي تي" الذي فتح مجالا إبداعيا أمام كثير من المؤسسات والأفكار للقيام بأعمال مبنية على الذكاء الاصطناعي كما حدث في شراكة مؤسسات معه، مثل سناب شات وسلاك وغيرها، وتنافس شركات على تطوير برمجيات في هذا المجال، مثل "ميتا" (Meta) وغوغل (Google) و"مايكروسوفت" (Micrososft)، وهو الأمر ذاته الذي يعطي لمدققي المعلومات ميزة في الاستفادة من المصادر المفتوحة بالشكل الأمثل أثناء عملية تدقيق المعلومات، على الرغم من وجود نماذج سابقة هددتنا بالتضليل.

فإذا كنت تريد أن يتحدث أوباما أو ترامب أو بوتين بكلماتك في مقطع فيديو فإن كل ما يلزم استخدامه هو أحد تطبيقات الذكاء الاصطناعي لكتابة الكلمات واختيار شخصيتك المفضلة لاستلام مقطع فيديو يمكنك به تضليل جمهور مواقع التواصل ولا يمكن تمييزه عن الحقيقة إلا بتدخل خبراء.

وبالحديث عن الفرص التي يتيحها الذكاء الاصطناعي في هذا الشأن للصحفيين -خاصة مدققي المعلومات- فالإمكانيات مذهلة إذا تحدثنا عن مهام معقدة، إذ يمكن تدريبه على تجميع كميات هائلة من المعلومات والبيانات من مصادر موثوقة وتحليلها بمختلف أشكالها، وتتبع النصوص والتعرف على الصور والفيديوهات من المصادر المفتوحة، وكشف حملات التضليل الممنهجة بشكل سريع قبل رواجها واتساع رقعة تداولها عبر مواقع التواصل.

ولا تزال الأدوات التقنية المختلفة -رغم نتائجها الهائلة- غير قادرة وحدها على إعطاء نتائج مبنية على التحليل التقني وحسب في عملية التحقق الخبري بالشكل النموذجي، فالعقل البشري هو العامل الأساسي في تقييم وجمع الحقائق من مختلف الزوايا، والإلمام بالسياقات والمعارف المرتبطة بها في طريق الوصول إلى الحقيقة الكاملة، فلا مجال لأنصاف حقائق، فهذا تضليل.

إن التخطيط الصحيح والخطط المدروسة المبنية على تعلم الآلة والذكاء الاصطناعي من شأنهما تغيير مسار صناعة تدقيق المعلومات لتحقيق هدف مكافحة الأخبار الكاذبة، والطريق مفتوح أمام العقول المبدعة من التقنيين والصحفيين معا في تطوير نسخة خالية من تحيز المعلومات، ولا تعطي نتائج إلا بمنهجية تحقق ضمن سياق الحدث، ولا شك أن هناك عقبات أمام هذا التفاعل الإدراكي، لكن التحول من التقليدية في كثير من الأمور إلى الذكاء الاصطناعي فتح المجال أمام المؤسسات الصحفية أيضا لتعزيز الإنتاجية.

من المحتمل أن تأخذ المبادرات والجهود الخاصة وقتا حتى يحظى الذكاء الاصطناعي بمزيد من الترحيب في المجتمع الصحفي بين مدققي المعلومات وحتى للتوصل إلى النتائج المرضية، فكلما تعلم الذكاء الاصطناعي معلومات متحققا منها ومحدثة وزادت البيانات الذكية اللازمة له زادت دقته

في 2015 كان نظام الذكاء الاصطناعي في وكالة أسوشيتد برس يكتب 3700 قصة عن الأرباح ربع سنوية، وهو الرقم الذي يعادل 12 ضعف مجموع ما كتبه مراسلو الأعمال بالوكالة، مما فرغ المحررين لكتابة قصص متعمقة حول اتجاهات عالم الأعمال، وفقا لمراجعات هارفارد للأعمال.

ومن المحتمل أن تأخذ المبادرات والجهود الخاصة وقتا حتى يحظى الذكاء الاصطناعي بمزيد من الترحيب في المجتمع الصحفي بين مدققي المعلومات وحتى للتوصل إلى النتائج المرضية، فكلما تعلم الذكاء الاصطناعي معلومات متحققا منها ومحدثة وزادت البيانات الذكية اللازمة له زادت دقته، ولذا فإن عدم وجود هذا العنصر هو ما أثر في معاناة "شات جي بي تي" من بعض القصور عند قياس عمله صحفيا، كعدم الوصول إلى أحدث المعلومات أو الإشارة للمصادر مثلا.

أخيرا، نحن في عصر أصبحت فيه التقنية لا تحتاج سوى هدف نبيل وأشخاص قادرين على التفكير بإبداع ونوايا حسنة بها تكتمل معادلة النجاح في خدمة البشرية، فما زالت البشرية في حاجة إلى المسارعة لتبني هذه الأفكار، فالحاجة كبيرة لمكافحة الأخبار الكاذبة والفبركات، ومستخدمو مواقع التواصل تصعب عليهم مراجعة حقيقة الادعاءات في ظل عدم قدرة مدققي المعلومات على مواكبة الكم الهائل من المعلومات المتداولة دون وجود الذكاء الاصطناعي الذي يعزز مهمتهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.