شعار قسم مدونات

رمضان.. المعاني والمضامين

صلاة التراويح في مسجد "آيا صوفيا" الكبير في تركيا (وكالة الأناضول)

إن الله قد خلق الإنسان من الطين ثم نفخ فيه من روحه فهو ممزوج بين الشهوات ومنازل التطلع للسماء، وما خلقه الله ليكون متنزها عن المتاع لا يشتهي الشهوات، ولكن نفخة الله المستعلية على تلك الشهوات تدعو الإنسان دائما لمعاني أجلّ من متاعه العاجل، وتزكي فيه التطلع لما هو أصله الذي كان عليه؛ فلما غوى ابتلي بالشهوات، وكانت توبته لله تزكية له عن مخالفته لأمر الله تعالى ﴿وعصى آدم ربه فغوى ۝ ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى﴾ [طه: 121-122].

ولما كان الإنسان مبتلى بالشهوات لا يصبر على مفارقتها فهي مما جبل عليه، فإن من رحمة الله به أنه لم يتركه من غير راشد يدله، فقد أودع فيه الله من روحه وجعل فيه الإرادة والإمكان بأن يستأنف سعيه لله، يقاوم ما ابتلي عليه ليلقى جزاءه من الأجر يوم يلقى الله. وقد كانت التوبة -وهي تجديد الإنابة لله بالطاعات- السبيل الأول لتزكية النفس عن شوائب الشر التي تختلط بالإنسان في حياته، والعارف بطبيعة هذا الإنسان يدرك أن الشر مخلوط في نفسه مع الخير، وقد تحدث عن ذلك الإمام الغزالي في صدر كتابه عن التوبة ضمن كتابه الإحياء فقال "وأما تصحيح النسب إلى الملائكة بالتجرد لمحض الخير فخارج عن حيز الإمكان، فإن الشر معجون مع الخير في طينة آدم عجنا محكما لا يخلصه إلا إحدى النارين، نار الندم أو نار جهنم".

التقوى التي يريدها الله لا تتحقق إلا بالمشقة في مفارقة الطعام والشراب وحبس النفس عن أهوائها حتى تطاوع أمر الله وتألف طاعته

الصيام والتقوى

وإن كنا قد قدمنا أن الإنسان مجبول على الشهوات مطالب بوضعها في إطارها المرسوم من عند الله، فإن ذلك يقتضي تطويع النفس لأوامر الله تعالى، وإن رغبت تلك النفس عن تلك الأوامر فإنها حقيقة الابتلاء؛ أن يُختبر الإنسان في دنياه بامتثال أمر الله في مخالفة هواه، فإن التقوى التي يريدها الله لا تتحقق إلا بهذه المعاناة والمشقة في مفارقة الطعام والشراب وحبس النفس عن أهوائها حتى تطاوع أمر الله وتألف طاعته تماما كما الطفل الذي يفطم عن اللبن فيألف الفطام بعد المعاناة، يقول البوصيري في بردته:

والنفس كالطفل إن تهمله شب على        حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم

وقد جعل الله التقوى غاية جليلة من غايات الصيام، فمن رحمته بالناس أن هيأ لهم ما يساعدهم على مغالبة أنفسهم لتتقي عذاب الله يوم القيامة، وهيأ لهم من الأجر ما تعجز عن وصفه العقول والأبصار.

من غايات الصيام التي تندرج تحت التقوى أنه يدعم جانب التعاون بين المجتمع فيشعر الغني بحاجة الفقراء ويشعر القوي بحاجة الضعفاء

الصيام والتراحم

للصيام بعدٌ تُنشئه طبيعته، فالجائع أقرب لرقة القلب من الشبعان، ولذلك كان من لوازم الصوم التراحم، فرمضان تزيد فيه عوامل التكافل والتعاون والتراحم، ولذلك كانت من غايات الصيام التي تندرج تحت التقوى أنه يدعم جانب التعاون بين المجتمع فيشعر الغني بحاجة الفقراء ويشعر القوي بحاجة الضعفاء. ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول "من فطّر صائما كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئا". رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.

وفي ذلك إشارة إلى ارتباط الصيام بالمجتمع وبالتعاون والتراحم والتعاضد. وفي ذلك كله اتساق مع رؤية الإسلام الكلية المتأسسة على الرحمة، إذ إن غاية بعثه صلى الله عليه وسلم هي الرحمة ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾ [الأنبياء: 107].

جعل الله تعالى النافلة الليلية والأنس بالتعبد لله من أجل الأعمال التي يدنو بها العبد من ربه فهو مخلوق لهذه الغاية ولهذه العبادة

الصيام والقيام

للصيام كذلك ارتباط بالقيام، ولرمضان خصوصية في قيام الليل والتنفّل فيه، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قام رمضان إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه"؛ متفق عليه.

وقد جعل الله تعالى النافلة الليلية والأنس بالتعبد لله من أجلّ الأعمال التي يدنو بها العبد من ربه فهو مخلوق لهذه الغاية ولهذه العبادة، ثم إن الزاد الذي يتلقاه الإنسان بالليل هو ما يعينه في نهاره على السير بمنهج الله الذي نزّله ليكون هاديا له في حياته العامة والخاصة. ولذلك كله تعمر حياة المؤمن في رمضان نفحات القيام والتراويح فتكون له زادا سنويا ينبغي عليه أن يتعلم منه وأن يصنع في بقية العام نوافل مماثلة تعينه في دنياه ليبلغ آخره في طهر وتوبة وإنابة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.