نحن على مشارف باب من أوسع أبواب الرحمة، وهو شهر رمضان المبارك، ورمضان يعد مدرسة رائعة مليئة بالخير والهدى، ومن أهم هذه الدروس التي يحتاج إليها المسلمون الآن الثورة والتغيير، لذا فإن محور هذا المقال سيكون عن تغيير الأرواح وانتفاضة الأجسام وحياة الأمة، وسيكون ذلك على 3 محاور:
- الأسباب الدافعة إلى التغيير والثورة.
- العوامل المعينة على التغيير والثورة.
- مجالات التغيير والثورة.
أولا: الأسباب الدافعة إلى التغيير والثورة
والذي يجب أن نبدأ به هو الحديث عن الأسباب الدافعة لهذه الثورة والانتفاضة، وذلك التغيير والتطوير، والحق أن هناك كثيرا من هذه الأسباب، ومن أهمها:
- مكانة الشهر: وذلك أنه لا توجد مكانة لشهر من شهور السنة كشهر رمضان، فهو الشهر الذي اختصه الله بالذكر في القرآن، قال تعالى {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} [البقرة: 185]، كما أن الله اختصه بكثير من الفضائل، منها: نزول القرآن فيه، والتعبد لله بالصيام فريضة دون غيره، فضلا عن كثير من الفوائد سيأتي ذكرها في النقاط التالية.
- ضعف العدو: وذلك أن العدو الأول (الشيطان) قد ضمن الله لنا ضعفه بالتقييد، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- يقول "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب السماء، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين"، وهذا يعني أنها لا تخلص إلى الإغواء الذي كانت تصل إليه من قبل، أو أن ذلك التقييد يكون للمردة فلا يطلق إلا الصغار منهم ومن تعبد لله بما في رمضان من عبادات كفاه الله شر هذه الشياطين.
- إغراءات التغيير: كما أن هناك إغراءات لا تحصى من الأجور تدفع بالمسلم دفعا ليقوم بالتغيير والتطوير، ولمَ لا، والحسنات تتضاعف، وأبواب الجنة تفتح، والجنة تتزين، روى مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين".
- تعدد العبادات: وذلك أن رمضان يحوي من العبادات ما لا يحويه غيره من الشهور، ففيه كما في غيره صلاة وزكاة وذكر ودعاء، وزيارة بيت الله الحرام، إلا أنه يفضل على غيره بركن الصيام، وعبادات التراويح، وليلة القدر، روى أحمد عن أبي هريرة قال "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبشر أصحابه: قد جاءكم رمضان شهر مبارك، افترض الله عليكم صيامه، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم" (قال محققو المسند: صحيح).
لا تغيير دون بيئة صالحة تعين المرء على الترك وتحفزه على الخير، ولهذا قال الله تعالى لنبيه {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه}
ثانيا: العوامل المعينة على التغيير والثورة
كما أن هناك عوامل تعين المسلم على الثورة والتغيير، ومن أهم هذه العوامل:
- الشعور بنعمة حضور الشهر: إن الشعور بنعمة حضور الشهر عامل من أقوى العوامل التي تدفع الإنسان للثورة على العادات القبيحة وتغيير العادات السيئة، وانظر معي إلى ما رواه أحمد عن أبي هريرة، قال "كان رجلان من بلي حي من قضاعة أسلما مع النبي صلى الله عليه وسلم، واستشهد أحدهما، وأخر الآخر سنة، قال طلحة بن عبيد الله: فأريت الجنة، فرأيت المؤخر منهما أدخل قبل الشهيد، فتعجبت لذلك، فأصبحت فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، أو ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أليس قد صام بعده رمضان وصلى 6 آلاف ركعة، أو كذا وكذا ركعة صلاة السنة؟" (قال محققو المسند: إسناده حسن).
- حسن الظن بتحصيل الأجر: ينبغي على المسلم أن يكون عنده حسن ظن بالله تعالى، فإن الله يعطي العبد على ما يظنه، بل يزيده من فضله ما أحسن الظن بالله، قال تعالى {فما ظنكم برب العالمين} [الصافات: 87]، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال "قال النبي صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي".
- وجود الإرادة الدافعة: وهذه الإرادة هي التي تجعل المسلم يثور على كل باطل وزور ويترك كل إثم ومنكر، روى مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي"، إنها الإرادة القوية التي تجعله يفارق المعتاد ويدع المألوف ويترك المرغوب، بل والمشروع ما دام الله أمره بذلك.
- الصحبة الصالحة: نعم، إنها من أكبر عوامل التغيير والثورة، فلا تغيير دون بيئة صالحة تعين المرء على الترك، وتحفزه على الخير، ولهذا قال الله تعالى لنبيه {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} [الكهف: 28]، ولذلك كان العمل الجماعي أساسا في رمضان، روى الشيخان عن أبي هريرة -رضي الله عنه- يقول "قال النبي صلى الله عليه وسلم: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"، وكم كان عمر مبدعا حين جمع الناس على أبي بن كعب في صلاة التراويح وقال: نعم البدعة هي.." (رواه ابن خزيمة، وقال الألباني: إسناده صحيح).
- الدعاء: نعم، إنه الدعاء، أقوى الأسلحة وأنفعها، ولك أن تقول إن رمضان هو شهر الدعاء، دعاء أن يبلغك الله رمضان "اللهم بلغنا رمضان"، ودعاء أن يتسلم الله رمضان "اللهم سلمنا رمضان وتسلمه منا"، دعاء طوال اليوم، روى أحمد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- يقول "قال النبي صلى الله عليه وسلم "ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم"، ودعاء عند الفطر "ذهب الظمأ وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله" (رواه أبو داود وحسنه الألباني)، ودعاء قبل السحور وبعد السحور، دعاء في كل الأحوال، ولهذا أورد الله آية الدعاء وسط آيات الصيام، فقال {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} [البقرة: 186].
الروح التي ألفت الراحة والدعة ومالت إلى متطلبات النفس كم هي بحاجة إلى دورة تدريبية تخرجها من هذا الكسل التعبدي والميل الجسدي، وهذا ما يتحصل بكثرة الطاعات من صيام وقيام وذكر وتلاوة وصدقة
ثالثا: مجالات التغيير والثورة
والتغيير الذي نعيه أو الثورة والانتفاضة التي يحدثها رمضان ليست في محور واحد أو جانب محدود، ولكنها في جهات مختلفة ومحاور متعددة، وذلك أن رمضان لا يخاطب الروح دون العقل ولا العقل دون القلب ولا القلب دون الجسد، وهو وإن كان إلى الروح أقرب وللقلب أكثر مخاطبة إلا أنه يخاطب الإنسان كله، بمشاعره وأحاسيسه، بعواطفه وميولاته، بعقله وقلبه وروحه.
ولذلك، فإن ثورة رمضان وانتفاضته تسير في محاور ثلاثة:
- فكري عقلي: وذلك لأن الأمة بحاجة إلى تغيير فكري وعقلي في ما رسخته العادات الخاطئة والمعلومات المغلوطة، ولهذا يأتي رمضان ليعلمنا كيف نثور على هذه الأفكار التي تصادم العقل السليم والفطر السوية.
- روحي قلبي: وذلك أن الروح التي ألفت الراحة والدعة ومالت إلى متطلبات النفس كم هي بحاجة إلى دورة تدريبية تخرجها من هذا الكسل التعبدي والميل الجسدي، وهذا ما يتحصل بكثرة الطاعات من صيام وقيام وذكر وتلاوة وصدقة، وهنا لا بد من حضور القلب الذي يعد بمثابة القائد الأعلى لهذه الأعضاء، وفي الصحيحين عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول ".. ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".
- أخلاقي سلوكي: وهذا أيضا ما تحتاجه الأمة وبقوة، فرمضان شهر ثورة على الخلق السيئ والسلوك المعوج، وفرصة طيبة لسمو الأخلاق وارتقاء المسلم في سلم الأخلاق ليكون في دائرة "إن خياركم أحاسنكم أخلاقا" (رواه البخاري).
روى الشيخان عن أبي هريرة -رضي الله عنه- يقول "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال الله: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي"، فهذه دعوة إلى الإخلاص (إلا الصيام فإنه لي)
ملخص الثورة الرمضانية وانتفاضة الصوم السنوية
وأخيرا، فهذا ملخص لأهم ما تحدثه الثورة الرمضانية وانتفاضة الصوم السنوية، وذلك من خلال أحاديث النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أهمها:
- رمضان ثورة على فرقة الأمة: روى الشيخان عن أبي هريرة -رضي الله عنه- يقول "قال النبي صلى الله عليه وسلم: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"، لذا فمن الواجب أن تسعى الأمة بقدر المستطاع إلى توحيد البدء في الصيام والانتهاء بالعيد.
- رمضان ثورة على الشجار والخلاف: روى البخاري عن عبادة بن الصامت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج يخبر بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين فقال "إني خرجت لأخبركم بليلة القدر، وإنه تلاحى فلان وفلان، فرفعت، وعسى أن يكون خيرا لكم، التمسوها في السبع والتسع والخمس"، فالله في إخوانكم أيها الصائمون.
- رمضان ثورة على النفاق والرياء: روى الشيخان عن أبي هريرة -رضي الله عنه- يقول "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال الله: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي"، فهذه دعوة إلى الإخلاص (إلا الصيام فإنه لي).
- رمضان ثورة على الأخلاق المزرية: روى الشيخان عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال "الصيام جنة فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم مرتين"، فمن صام عن الحلال من الطعام وجب عليه أن يصوم عن المحرم من الخلق، وقد روى البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".
بعض الناس يتوهم أن حسن علاقته بربه لا يكون إلا بانقطاع علاقته بزوجه، وبعضهم قائم صائم تارك لحقوق الطرف الآخر، ونسوا أن لكل ذي حق حقه
- رمضان ثورة على الحياة المادية: روى الشيخان عن أبي هريرة قال "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه"، ورويا عنه أيضا عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال "من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه"، إنها ثورة بالليل وبالنهار، صيام بالنهار، وقيام بالليل.
- رمضان ثورة على العلاقات الحميمة المنقطعة: يقول الله تعالى {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} [البقرة: 187]، إن بعض الناس يتوهم أن حسن علاقته بربه لا يكون إلا بانقطاع علاقته بزوجه، وبعضهم قائم صائم تارك لحقوق الطرف الآخر، ونسوا أن لكل ذي حق حقه، وقد روى مسلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لابن عمر "فإن لزوجك عليك حقا ولزورك عليك حقا ولجسدك عليك حقا".
- رمضان ثورة على العادة والرتابة: روى الشيخان عن عائشة -رضي الله عنها- قالت "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله"، هنا تغيرت العادات، وتبدل النظام المألوف طوال العام، فقيام لا مثيل له في الطول، وصيام لا شبيه له في التمام.
كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين يلقاه جبريل أجود من الريح المرسلة
- رمضان ثورة على المفاهيم المغلوطة: روى الشيخان عن أبي هريرة قال "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه"، فبعض الناس يتوهم أن المسلم دائم العبوس، مستمر الأحزان، وما علموا أن الفرح في موضعه طاعة، وقد وجهنا هذا الحديث لذلك، والله يقول {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون} [يونس: 58].
- رمضان ثورة على الأنانية المقيتة: روى أحمد مسند أحمد عن زيد بن خالد الجهني عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال "من فطر صائما كتب له مثل أجره، إلا أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء" (قال محققو المسند: صحيح لغيره)، لذا فإن من السنة الحرص على إطعام الآخرين.
- رمضان ثورة على الشهوة الجامحة: روى الشيخان عن ابن مسعود -رضي الله عنه- فقال "كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: من استطاع الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء"، فمن ضاق به الحال وعجز عن الزواج فالصوم الصوم، ومن صام حماه الله.
- رمضان ثورة على الفقر: روى أحمد عن ابن عباس "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان من أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل يلقاه كل ليلة يدارسه القرآن، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين يلقاه جبريل أجود من الريح المرسلة"، ولهذا شرع الله صدقة الفطر، روى البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنه- قال "فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صدقة الفطر صاعا من شعير أو صاعا من تمر على الصغير والكبير والحر والمملوك".
رمضان حياة أمة
وأخيرا فإن الأمة إن راعت ما جاءت به الشريعة الغراء في رمضان من أوامر وأحكام، وسنن وآداب، فإن الله يضمن لها إذا ثارت على الباطل والزور، والفسق والجور، والظلم والاستبداد، والنفاق والشقاق، والعزلة والأنانية وانتفضت من الرتابة والكسل، والعجز والدعة، والميوعة والوهم، وتغيرت من الجهل إلى العلم، ومن التبعية إلى القيادة، ومن الشك إلى اليقين، ومن التخبط إلى التخطيط، ومن الفوضى إلى النظام.. إن فعلت الأمة ذلك فإنها جديرة أن تستحق الحياة الحقيقة التي نزل القرآن بها، وقد قال تعالى: {إن هو إلا ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حيا} [يس: 69، 70]، إنها تحيا بالنور الإلهي والذي أكثر ما يكون القرب منه في رمضان، وهما طريقان لا ثالث لهما إما حياة الإيمان أو الكفر، قال تعالى: {أومن كان ميتا فأحييناهُ وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها} [الأنعام: 122].
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.