شعار قسم مدونات

أيها الإنسان المستخلف!

نظام الإنتاج الياباني يعد أحد المنتجات المعرفية الحديثة في دنيا الصناعة (وكالة الأنباء الأوروبية)

الحضارة هي مجموع الإنتاج المعرفي والفني والقيمي لثقافة ما في إطار الزمان والمكان. هذا الإنتاج يتميز بخصيصتين مهمتين كي تعلو هذه الحضارة وترقى، أولاهما أن يتحاشى هذا الإنتاج الاستنساخ من الآخر وتركيم منتجاته، والثانية أن يخوض غمار الإبداع القائم على الاشتباك العقلي مع التراث الذاتي والحديث الخارجي.

نعني بالاشتباك هنا البحث والتدقيق في زخم التراث لفهم ما أنتجته الثقافة نفسها في زمان ومكان مغايرين للوقوف على ركائز وخصائص هذا التراث الذي شكّل الوعي الحضاري للأمة وكذلك يشمل النقد والتفكيك للحديث الآتي من الخارج للوقوف على نموذجه المعرفي ونسقه الثقافي حتى تُفهم منتجاته في هذا الإطار ويستبين مدى وقوة التوتر المُنتج بين التراث والحديث.

من رحم هذا الاشتباك يتم إنتاج وميلاد مخرجات الثقافة الثلاثة (معرفة، فن، قيم) لتكون بنت هذا الزمان والمكان والمعبرة عن الهوية الحضارية الأصيلة لنسق الأمة الحضاري الحديث.

هذا الإنتاج ينبعث متناسبا مع اكتمال عناصر الحضارة في لحظة تاريخية معينة من وعي دقيق بالذات وسعى مبدع بأدوات العمران وتفاعل مع التراث على المستوى الفردي والجماعي للأمة ووجود نموذج كلي فلسفي مغاير لما هو قائم.

كذلك فإن هذا الانبعاث الحضاري يزداد قوة واندفاعا إذا ما صاحبت تلك العناصر تحديات تهدد الأمة وتستلب إرادتها لتعمق تبعيتها للآخر تجعلها مستهلكة لمنتجاته.

يعتبر نظام الإنتاج الياباني أحد المنتجات المعرفية الحديثة في دنيا الصناعة وهو يعكس مفهوم الإبداع الحضاري

ولنضرب بعض الأمثلة تساعد في توضيح ملامح هذا الاشتباك العقلي المنتج للحضارة لأمم مختلفة في نواح معينة وكيف مثّل إبداعا (على اختلاف كماله) منطلقا من فهم للتراث واستيعاب للحديث، ومحفزا بتحد تاريخي معين.

يعتبر نظام الإنتاج الياباني أحد المنتجات المعرفية الحديثة في دنيا الصناعة وهو يعكس مفهوم الإبداع الحضاري الذي أسلفنا من عدة أوجه، فبعيد الحرب العالمية الثانية كانت اليابان في تحد حضاري جلي لتتجاوز مرارة الهزيمة وتقوم من كبوتها لتلحق بركاب المدنية الحديثة، وقد امتلأ أحد عقولها بهذا التحدي وهو "تاييشي أوهنو" مدير شركة تويوتا في منتصف القرن الماضي.

انطلق الرجل ليشتبك بالمنتج الحداثي الصناعي الذي أنتجته الحضارة الأميركية على يد رائد من روادها وهو هنري فورد والمسمى بالإنتاج الكمي والذي يتميز باستخدام خطوط الإنتاج السريعة وتوظيف العاملين عليها ليقوموا بعملية التجميع والتصنيع بشكل متكرر نمطي.

هذا النمط من الإنتاج الهائل وتوظيف الإنسان فيه كجزء من الإنتاج المستمر يعكس بوضوح بعض سمات الحضارة الرأسمالية الحديثة القائمة على فائض الإنتاج وجنون الاستهلاك.

تأمل الرجل هذا المنتج المعرفي ورأى فيه فوائد صناعية جمة، ولكن لما كان راسخ القدم في نسق معرفته وثقافته الأصيلة، أدرك أنه لا مجال لاستنساخ هذا النموذج كما هو. وكان لا بد من نقده وتفكيكه ثم إعادة تركيبه وفق قيم مجتمعه حتى يكون منتجا حضاريا يابانيا قابلا للحياة داخل المجتمع ودافعا إلى الإبداع.

لست بصدد تفصيل نواحي التعارض بين نموذج الإنتاج الغربي وقيم المجتمع الياباني ولكن أشير إلى أهم أوجه هذا التناقض وهو رؤية هذا النموذج للعامل وتموقعه داخل هذه المنظومة، فبينما ترى المنظومة الصناعية الغربية في ذلك الوقت العامل كأحد أدوات الإنتاج الصماء فإن منظومة القيم الإنتاجية في اليابان تضع العامل في قلب عملية التصنيع لأن كل فرد في هذا المجتمع يكتسب قيمته وشرفه من عمله.

ولذا فإن المصنع ليس فقط مكانا للإنتاج بل هو من محددات ماهية الفرد ولا يمكن لمنظومة إنتاجية في مجتمع كهذا ألا تبادل العامل هذا الشعور فتمكنه وتوقره وتجعله مكونا أصيلا من عملية الإنتاج وقراراتها اليومية.

من رحم التراث الإسلامي تجلت حالة الاشتباك العقلي مع الحديث منطلقا من التراث في علم الكلام الذي نضج مع جهود الإمام أبي الحسن الأشعري. وكان هذا الإنتاج المعرفي هو الرد الحضاري للثقافة الإسلامية

وكان على المهندس أوهنو أن يعيد صياغة منظومة إنتاجه لتستفيد من التقدم الهائل في الميكنة وفكر الإدارة الوافد من الغرب ولكن من خلال إعادة تركيب هذه النواحي في داخل النسق الثقافي والقيمي الياباني.

وكانت النتيجة إبداعا صناعيا جديدا عُرف باسم منظومة تويوتا الإنتاجية والتي أصبحت من بعد المثال المحتذى لكل منظومات الإنتاج بما فيها الغربية منها.

مثال آخر من رحم التراث الإسلامي يتجلى في علم الكلام والذي نضج مع جهود الإمام أبو الحسن الأشعري. كان هذا الإنتاج المعرفي هو الرد الحضاري للثقافة الإسلامية التي كانت لا بد أن تستوعب سيل المعارف الإغريقية وفلسفاتها التي بدأت تهز عقائد وأفكار المجتمع فيما يخص الإلهيات، وقد جاء منطلقا من التراث الواضح للعقيدة الإسلامية والمبني على معرفة الله وتنزيهه.

استوعب علم الكلام المنطق الأرسطي وفلسفات أفلاطون وغيره واشتبك معها كما انطلق هذا العلم من فهم السلف النقي فيما يخص أفرع العقيدة وأنتج مُبدعا مباحث شكلت الأرضية الجديدة لهذه الأمة لتناول وفهم عقيدة الإسلام في الإلهيات والنبوات والسمعيات. لقد كان اشتباكا مع حداثة شكلت تحديا لنسق معرفي سائد حفز العقول لإنتاج جديد يحافظ على التراث ويناسب الزمان والمكان.

وكما مثلنا بمنتج علمي مادي وآخر علمي قيمي لحالة الاشتباك العقلي مع الحديث منطلقا من التراث ومُحفزا بتحد، فلنختم بمنتج في ميدان الفن حتى نكون وفينا مناحي الحضارة الثلاثة. لقد مثل المعمار سنان في القرن السادس عشر حالة فريدة من قدرة الأمة على الإبداع الفني في شكل عمارة استوعبت الحديث وانطلقت من القديم لتخرج بمنتج حضاري ما زال ينطق بقدرة هذا الرجل العظيم وبالنسق الثقافي للأمة في ذاك الوقت.

في أوج عصر النهضة وفنانيه المتميزين، كان التحدي أمام المعمار سنان جليا (والذي تلمسه في مذكراته) حيث أراد أن ينشئ طرازا معماريا جديدا منطلقا من أصالة هذا الفن في تاريخ الأمة ومستوعبا في ذات الوقت ما أنتجته الحضارات الأخرى.

أدى هذا الاشتباك إلى إبداع طراز معماري إسلامي جديد (عثماني) يعكس عمقه القيمي (الشعائري) والتاريخي (البيزنطي) ويستوعب التقدم الهندسي الهائل في العمارة في الوقت ذاته، ليُخرج عمائر وقبابا ومآذن لا سابق لها تطاول ما كان قائما في أوروبا في هذا الوقت.

إنك تكاد تسمع المعمار سنان وهو يكتب في تحفة المعمار صوت إنسان الحضارة الممتلئ بتراثه -عندما يتكلم عن قيم الإتقان والجمال والتوكل على الله في العمل- والمستوعب للآخر الحديث والقديم (انظر حديثه عن عمارة أيا صوفيا القديمة مثلا).

كما نحتاج إلى نماذج جديدة في السياسة والاجتماع والاقتصاد والتطبيقات التكنولوجية وغيرها من المجالات نحتاج أيضا إلى فعل يومي حضاري مبدع

إن هذا الإنسان الحضاري القادر على الاشتباك بعقله وملكاته مع الزمان والمكان والمنطلق من أرضية هويته هو فيما أزعم ما تحتاجه أمتنا اليوم بل وكل أمة. إن هذا الإبداع المنتج للحضارة لا يقتصر على منتجات كبرى كالتي أسلفنا الحديث عنها، بل ذلك الإبداع يشمل كل عمل صغير أو كبير في كل ميدان ومجال.

فكما نحتاج إلى نماذج جديدة في السياسة والاجتماع والاقتصاد والتطبيقات التكنولوجية وغيرها من المجالات (وهو جهد فكري جماعي منظم) نحتاج أيضا إلى فعل يومي حضاري يسع جموع الناس.

يحتاج إنسان الحضارة إلى أن ينظر في حرفته، في ملكاته، حوله في مجتمعه ويُسائل نفسه كيف أُنتج جديدا أو أحسن قائما أو أستوعب منتج غيري في مجالي من غير الاقتصار على التقليد بل كيف أرى ثقافتي وتميزي التراثي فيما أنتج أو أفعل وكيف أربط ما أستهلك بقيمي ومعايير ثقافتي.

من شأن هذا الجهد والفكر أن يولد حراكا يقود إلى حوار مجتمعي حوله، ومن شأن هذا الحوار أن يبعث في الأمة وعيا هي أحوج ما تكون إليه لتقف أمام تحدي الاستلاب الحضاري والذي ما يفتأ يحيط بنا جيلا بعد جيل.

لا مناص من هذا الاشتباك العقلي ولا فرار من هذا الجهاد العمراني وإن حركة التاريخ الحضاري تشرئب لتنظر من سيخلف حضارة مادية باتت تراكم أكثر مما تبدع وتفسد أكثر مما تصلح وإني لأرجو أن تكون هذه الأمة على طريق تسلُّم هذه الراية الحضارية وأخذها إلى أفق معرفي وفني وقيمي جديد.

أيها الإنسان المستخلف، أيتها الأمة الشاهدة هاك ميدان الصدق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.