شعار قسم مدونات

معركة التراث.. لماذا يهاجمون الشافعي؟

صورة تخيلية للإمام الشافعي رحمه الله تعالى (الجزيرة)

شنّت الحداثة الغربية حربا لا هوادة فيها على السرديات الغيبية والحضارات التي تنتمي إليها، وكان لحضارة الإسلام نصيب الأسد من الهجوم والتعدي. هذه الحرب أخذت أشكالا منوعة، وتفرعت في صراعات متعددة، وقد كان لها جنود وكتاب ومفكرون من مجتمعاتنا العربية تجندوا لها، أما ميدانها فهو العقل والروح الإسلاميان.

في الصفحة الأولى من كتاب سيد قطب "العدالة الاجتماعية في الإسلام" قال: "في عالم الاقتصاد، لا يلجأ الفرد إلى الاستدانة، وله رصيد مذخور، قبل أن يراجع رصيده"، "أفلا يقوم رصيد الروح، وزاد الفكر ووراثات القلب والضمير كما تقوم السلع والأموال في حياة الناس"، "لكن الناس في هذا العالم الذي يُطلق عليه اسم (العالم الإسلامي) لا تُراجع رصيدها الروحي وتراثها الفكري قبل أن تفكر قي استيراد المبادئ والخطط، واستعارة النظم والشرائع من خلف السهوب ومن وراء البحار".

لماذا هذا الارتماء في أحضان الغرب ما دام لدينا مخزون كبير ولم نحسن استثماره على النحو الأكمل؟ لماذا هذا الانبهار بالحضارة الغربية، الذي كان ولا يزال منتشرا انتشارا رهيبا بين الأوساط الفكرية. فعلى سبيل المثال، طه حسين الكاتب والناقد المصري الكبير أظهر تأثره بالغرب من خلال كتاباته، لا بل أكثر من ذلك، لقد عبر عن ضرورة الاستسلام للعقل اليوناني والغربي والتسليم له، وخاض في نقاشات كثيرة تتناول بعض المسلمات الدينية في كتابه "في شعر الجاهلية" و"مستقبل الثقافة في مصر"، ولن أخوض في هذا الموضوع ولكني تطرقت إليه كونه أحد أوجه الحداثة التي طالبت بالقطيعة المعرفية مع التراث الإسلامي، ولكن للحق فقد نقض الرجل كتاباته السابقة وتراجع عنها وسلك مسارا مضادا لمشروعه هذا وقد عبر عن ذلك في عدة مقالات ومقابلات وكتب مثل "مرآة الإسلام"، ولكن على أي حال لا يزال يعدّ عند البعض أحد أهم المفكرين الحداثيين في عصرنا الحديث الذين بدؤوا ذلك المشروع الحداثي الذي يهدف إلى نقض التراث الإسلامي العريق والغزير.

من أهم ما أنتج الشافعي كتاب "الرسالة" الذي نظر فيه لكيفية استنباط الأحكام الشرعية من القرآن والسنة والإجماع والقياس، ونظم ذلك، فهذا التنظيم الرباعي كان له أثر عظيم في التراث الإسلامي وهو باق حتى يومنا هذا مرجعًا أصوليا وتأصيليا في الفقه الإسلامي

لكنه ليس الوحيد الذي بدأ تلك المعركة، فعندما انهارت الدولة العثمانية كانت الدولة الحديثة الغربية وحضارتها وحداثتها قد رسخت مفاهيمها في الشرق من خلال الاستعمار والاستشراق، فعملية السقوط تلك أسهمت في عملية بسط الهيمنة الثقافية والحضارية، ولم تقف عند تلك الحدود، فبدأت معركتها النقدية وتشويه التراث بشكل رهيب، فعلى سبيل المثال الإمام الشافعي، هذا العالم المفكر العظيم الذي كانت له إسهامات كبيرة في الفقه والفكر الإسلامي، ومن أهم ما أنتج كتاب "الرسالة" الذي نظر فيه لكيفية استنباط الأحكام الشرعية من القرآن والسنة والإجماع والقياس، ونظم ذلك، فهذا التنظيم الرباعي كان له أثر عظيم في التراث الإسلامي وهو باق حتى يومنا هذا مرجعًا أصوليا وتأصيليا في الفقه الإسلامي.

ولكن هذا التنظيم والسياق لم يعجب الحداثيين الذين شنّوا هجوما عنيفا عليه، أمثال جورج طرابيشي وأدونيس ونصر حامد أبو زيد وغيرهم، من مبدأ أن الشافعي قيّد العقل الإسلامي بالنصوص الجامدة -حسب قولهم- وحوّله إلى عقل جامد غير قابل للتطور، وهذا الاتهام الظالم امتدّ إلى الإمام الغزالي أيضا إذ اعتبر هو أيضا أحد أسباب التخلف الإسلامي لأنه هاجم بعض الفلاسفة وردّ شبهاتهم في كتابه الأبرز "تهافت الفلاسفة"، مع أن الغزالي في كتابه المهم تحدث عن تهافت وتساقط خطاب بعض الفلاسفة ولم يقل بتساقط الفلسفة بحد ذاتها، وهجومه كان على بعض ملاحدة الفلسفة وليس على الفلسفة بشكل عام.

وبالعودة إلى نقض التراث من باب الإمام الشافعي، فالسؤال الذي يجب أن نسأل أنفسنا عنه: هل فعلا ما قاله هؤلاء صحيح؟ كلا، لأن الإسلام وعلماءه عظّموا من شأن العقل أمثال ابن الرشد وابن خلدون وابن تيمية وغيرهم، والحقيقة فإن تيار الحداثة العربي -السياسي منه والمعرفي- أنتج فكرا وممارسة مأزومين، حيث لم تعرف أوطاننا في ظل هيمنتهم إلا دولا مستبدة وهويات هجينة متصارعة، حتى في الغرب، أنتجت الحداثة حربين عالميتين، وشكوكا وعدميات وإلغاء لمفهوم الحقائق الكلية والنهائية.

لا يمكن للأمة أن تنهض من خلال نقض التراث، وهو اتجاه خاسر مردود، وعلينا أن نفعّل النقد الإيجابي البنّاء الذي يقوم على تصحيح المسار، والذي يبدأ بالقراءة المتأنية والعميقة والمعاصرة للنصوص، ومن المهم الوقوف ضد الفهوم اليابسة لبعض النصوصيين، لأن النص المقدس ثابت ومستمر في الإعجاز ودوره في الإمداد اللانهائي لم ولن ينقطع. إذن، التفكير هو الذي يجب أن يتغير، والتجديد يجب أن يستمر، فلقد أشعل كوبرنيكوس ثورة علمية عندما قال إن الأرض تدور حول الشمس وليس العكس، ولكن هل تغيرت الشمس والأرض؟ كلا، إنما تغيرت النظرة فقط وتغير النظرة أحدث ثورة.

وجب على الأمة أن تحافظ على تراثها العريق والعميق، وأن تقوم بإحيائه وتطويره، فهذا المخزون كان رأسمال أوروبا في نهضتها العلمية وخروجها من كبوتها الثقافية

لقد تراجعنا عندما تركنا القرآن وهو أساس تراثنا العظيم ومصدره، فمهما تطورت العلوم والمفاهيم والتكنولوجيا يبقى العقل محدودا، ورغم كل قدراته الخارقة لا يمكن أن يستغني عن النقل، وحتى الآن لم يفهم العقل القرآن بكل تفاصيله ومعانيه لأنه قاصر ومحدود.

وبمعنى آخر، يجب أن نتفادى استنساخ تجارب الماضي وتطبيقها في الحاضر من دون أي تجديد، وكذلك استنساخ تجارب الأمم الأخرى وإسقاطها من دون أي تعديل، المطلوب هو الدفع نحو تكوين ثقافة جديدة وإنتاج مثقفين إصلاحيين ومحافظين وفقه ذكي ومعاصر، وترشيد الخطاب الديني من خلال الأبحاث العلمية التي تؤكد صحة القرآن، كل ذلك يكون استنادا إلى التراث الكبير الذي نكتنزه.

وجب على الأمة أن تحافظ على تراثها العريق والعميق، وأن تقوم بإحيائه وتطويره، فهذا المخزون كان رأسمال أوروبا في نهضتها العلمية وخروجها من كبوتها الثقافية، فأوروبا استفادت من تراثنا الفقهي على نحو ما فعل نابليون حينما استلهم تشريعه الفرنسي من الفقه المالكي، وكذلك عمارة كنيسة نوتردام المقتبسة من فنون العمارة المشرقية، والمنهج الشكي الديكارتي الذي هو من آثار الغزالي، كل تلك الإنجازات الغربية أصولها إسلامي ومشرقي ولكن الحقائق شُوّهت وحُرّفت حتى باتت الشخصية المعاصرة تميل نحو الانهزامية والاستسلام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.