شعار قسم مدونات

صراع الأخلاق.. من الظلام إلى التنوير (17)

الفلاسفة الثورات
فلاسفة عصر التنوير والثورات (مواقع التواصل الاجتماعي)

كان الهدف الرئيسي من هذه السلسلة الوقوف على الأسباب التي دفعت بعض الفلاسفة الغربيين إلى معارضة الأخلاق، واعتبارها أسطورة، والدعوة إلى إلغائها من حياة البشر، وعلى رأسهم الأسترالي جون مكاي، صاحب نظرية "الخطأ الأخلاقي". وقد تطلب هذا منا بالضرورة معرفة المقصود بالأخلاق، والمرجعية التي تقوم عليها، وأهميتها للمجتمع الغربي، وعوامل التغيير التي مرّت بها على مرّ التاريخ، واتجاهاتها وعلاقتها بالدين والعقل والعلم والمجتمع والسياسة والاقتصاد، والتعرف على روادها والمؤسسات التي تحتضنهم، وصولا إلى العصر الحديث الذي شهدت فيه الدول الغربية تغيرات كبيرة في مجال الأخلاق، كامتداد طبيعي لما تم تأسيسه في القرون السابقة. وكل ذلك من أجل إدراك الخطر الكبير الذي يحدق بالعالم العربي والإسلامي، وبات يهدد نظامه الأخلاقي بالتفكك والانهيار.

وبعد أن تعرفنا على الموقف من الدين والأخلاق عند أبرز فلاسفة عصر التنوير، كان لزاما علينا أن نتمهل قليلا لنستعرض من جديد وبإيجاز، المراحل التي مررنا بها في المقالات السابقة، ليسترجع القارئ المتابع معنا لهذه السلسلة الاتجاهات والتغييرات التي توزعت عليها تصورات الفلاسفة الغربيين للأخلاق في المراحل السابقة، وكي يلم القارئ الجديد بملخص ما مضى، قبل أن ننتقل إلى القرن الـ19 الميلادي الذي سنشهد فيه العديد من المدارس والاتجاهات والنظريات التي تأثرت بشكل أساسي بما وصل إليه من فلاسفة عصر التنوير، كالمنفعة والمثالية والماركسية والوجودية والوضعية والبراغماتية والداروينية الاجتماعية.

هل كانت محاولات فصل الدين عن السلطة السياسية والأخلاق والعلم، في عصر التنوير مجرد تطور طبيعي للمحاولات السابقة أم أنها كانت بفعل فاعل؟ وهل صحيح ما يتردد من أن معظم فلاسفة عصر التنوير كانوا أعضاء في المحفل الماسوني؟

ما قبل عصر التنوير

استعرضنا في المقالات السابقة مسيرة الفلسفة الأخلاقية الغربية منذ ما قبل الميلاد مرورا بسقراط الذي كان يرى أن المعرفة فضيلة، وأن الفضيلة فطرية عند الإنسان، ولا يمكن تعلمها. وتلميذه أفلاطون تحدث عن الفضيلة والرذيلة، واللذة والألم، والجريمة والعقاب، والعدالة، وكان يعتبر "الخير" هو الشكل الأسمى، وأن الأخلاق الفردية هي عدالة الروح. ومن بعده تلميذه أرسطو الذي كتب العديد من الرسائل حول الأخلاق، التي اعتبرها عملية وليست نظرية، تهدف إلى جعل الإنسان جيدا ويقوم بعمل الخير. وكان يرى أن جميع الكائنات الطبيعية تميل إلى أداء وظائفها الخاصة ومحاولة تحقيق إمكاناتها بالكامل، وأن الخير يتألف من إنجاز تلك الوظائف. كما يرى أن الأفعال المختارة بحرية يمكن أن تكون أخلاقية، في حين أن الأفعال الإلزامية ليست أخلاقية. وانتهاءً بـ"أبيقور" صاحب مذهب اللذة والألم، فاللذة عنده هي الخير الأسمى، والألم هو الشر الأسمى، ورغم إقراره بالمتعة الحسية، إلا أنه يوضح قصده باللذّة، لذة التحرر من الألم، المترتبة على ممارسة الفضيلة.

ثم توقفنا عند العصور الوسطى (عصور الظلام) التي أعقبت انهيار الإمبراطورية الرومانية ودخول أوروبا في الدين المسيحي، واستمرت حتى بداية عصر النهضة في القرن الـ15 الميلادي، حيث شهدت الفلسفة الغربية نشاطا كبيرا متأثرة بالفلسفة اليونانية. وكان من أبرز فلاسفة هذه الحقبة القديس أوغسطينوس (354-430 م)، الذي كان يعتقد أن نعمة المسيح كانت لا غنى عنها لحرية الإنسان، وأن الكنيسة تشبه المدينة الروحية الإلهية، وهي متميزة عن المدينة المادية الأرضية. وكذلك القديس توماس الأكويني الذي رأى أن جميع أفعال الفضيلة موصوفة في القانون الطبيعي، وأن الفضائل الأساسية 4، وهي مُلزِمة للجميع (الحكمة والاعتدال والعدالة والثبات)، إضافة إلى 3 فضائل دينية هي "الإيمان والرجاء والمحبة"، وأشرنا إلى أسقف كانتربري أنسلم، الذي كان يرى أن الإيمان يجب أن يسبق المعرفة، والفيلسوف الفرنسي بيتر أبلار، الذي يُعدّ شعلة ألهبت عقل أوروبا في القرن الـ12 الميلادي، والراهب الإنجليزي وليم الأوكامي.

وفي عصر النهضة الذي يمتد من القرن الـ13 إلى القرن الـ16 الميلاديين، تبلورت النزعة الإنسانية، وتأرجحت الأخلاق بين النزعة الدينية التي سادت العصور الوسطى، ولكن بروح تجديدية، وبين النزعة الإنسانية المستمدة من الفلسفة الأرسطية والأفلاطونية، لتؤسس القاعدة الصلبة التي قامت عليها الأفكار التحررية والثورية التي سادت عصر التنوير. وقد وقفنا في هذا العصر عند الشاعر الإيطالي "دانتي أليغييري"، صاحب الكوميديا الإلهية، الذي كان من أوائل من تحدث عن ضرورة فصل الكنيسة عن السلطة السياسية. و"جيوفالي بيكو ديللا ميراندولا" الذي تأثّر بأفكار أفلاطون وأرسطو، وألف كتاب "كرامة الإنسان" الذي يضم 900 أطروحة، كان يرى أنها توفر أساسا كاملا لاكتشاف المعرفة، وكان يؤمن بالمصالحة الشاملة. و"نيكولو مكيافيلي" صاحب كتاب "الأمير"، الذي لا يتورع في استخدام القوة والبطش والخداع والتزييف ليحقق أهداف أمته، تحت شعار "الغاية تبرر الوسيلة"، معتبرا أن القيم الأخلاقية من شيم البسطاء والضعفاء، وأما الأمير فليس بحاجة إلى هذه القيم، فهو سيدها جميعا. و"مارتن لوثر" مؤسس المذهب البروتستانتي، والذي كان يرى أن الخلاص والحياة الأبدية لا يُكتسبان بالأعمال الصالحة، وإنما هما نعمة من الله، يحصل عليها المؤمن عن طريق إيمانه بالمسيح كمخلص من الخطيئة. و"ديسيديريوس إيراسموس" الذي يلخص الجوهر الأخلاقي للإنسانية في إصراره على الخير الصادق مقابل التقوى الشكلية.

يعدّ عصر التنوير الذي يمتد على مدى القرنين الـ17م والـ18م، الأخطر على الإطلاق فيما يتعلق بفلسفة الأخلاق، نظرا لدوره في تشكيل المسارات الفلسفية والفكرية والسياسية في القرون التالية حتى يومنا هذا، باتجاهيه العقلاني والعلمي.

عصر التنوير

يمتد عصر التنوير على مدى القرنين الـ17م والـ18م، وهو العصر الأخطر على الإطلاق فيما يتعلق بفلسفة الأخلاق، وقد كان لنا معه وقفة متأنية، نظرا لأهميته ودوره في تشكيل المسارات الفلسفية والفكرية والسياسية كذلك في القرون التالية حتى يومنا هذا؛ حيث بدأت عملية التنوير بالتدريج في إنجلترا وهولندا، ثم انتقلت إلى فرنسا وألمانيا، وغيرها من الدول الأوروبية، وكانت تركّز على قيمة السعادة البشرية والسعي وراء المعرفة عن طريق العقل والعلم والحماس والمثل العليا، كالحرية والعدل والمساواة والتسامح والأخوة، وتطالب بالحكم الدستوري. وقد شهد هذا العصر اتجاهين فلسفيين مختلفين، الأول الاتجاه العلمي القائم على التجريب والملاحظة، والثاني الاتجاه العقلاني.

وبرزت في الثورة العقلية 3 اتجاهات، كل اتجاه منها يُعدّ مقدمة للذي يليه، أما التيار الأول، فطالب بإعلاء قيمة العقل، مع تقديس الرب والتشديد على أهمية الإيمان في الحياة، ومن رواده الفيلسوف الفرنسي "رينيه ديكارت" الذي اعتبر علم الأخلاق رأس الحكمة، وتاج العلوم والمعارف، وأنه لا بد من الاطلاع على كل العلوم قبل الخوض في علم الأخلاق، فالفلسفة عنده كشجرة جذورها الميتافيزيقا، وجذعها علم الطبيعة، وأغصانها بقية العلوم الكبرى، وهي الطب و"الميكانيكا" والأخلاق العليا الكاملة. ومن رواد هذا الاتجاه أيضا "باروخ سبينوزا" الذي خالف ديكارت في قوله إن الجسد والعقل كيانان منفصلان، حيث يرى أن الجسد والعقل كيان واحد، وأن الخير الأسمى يكون في المعرفة، والمعرفة عنده هي اتحاد الروح بالطبيعة الكاملة.

والاتجاه الثاني، يرى أن نور العقل مقدم على نور الرب، لأنه السبيل إلى معرفته والإيمان به، ومن رواده "بيير بايل" الذي تخلى عن الديانة المسيحية، ودعا إلى التسامح الديني، ولكن ظل مؤمنا بوجود إله، ودعا لأول مرة إلى تغليب النور الطبيعي، أي نور العقل، على النور فوق الطبيعي، أي نور الإله. ومن رواده كذلك جان جاك روسو الذي يعتقد أن القوة العقلية هي مصدر الدافع الأخلاقي الحقيقي، وهذا الدافع هو الضمير الذي يدفعنا إلى حب العدالة والأخلاق، والرغبة في العمل على تعزيزها.

اتجاه "إيمانويل كانط" جمع بين الدين والعقل والعلم، ولكن الدين الموجود في العقل المتصل بالخالق، والذي لا يحتاج إلى إيمان بالأنبياء والوحي والمعجزات، ووضع نظريته الأخلاقية التي حوّل فيها الأخلاق إلى قوانين، وميّز فيها بين القوانين الأخلاقية الصادرة عن العقل ذي الإرادة الحرة، والأخلاق الطبيعية الصادرة عن الدين والطبيعة البشرية والقيم الاجتماعية.

أما الاتجاه الثالث فطالب بإقصاء الدين والإيمان، وفرض هيمنة العقل بالكامل، ومن رواده "فولتير" صاحب شعار "لنسحق العار" الذي أطلقه ضد التعصب الديني على مستوى أوروبا. وكان يؤمن بالعقل والطبيعة، ويرى أن النصوص الدينية مرجعية قانونية وأخلاقية عفا عليها الزمن، وهي من صنع الإنسان، وليست هبة إلهية، ومع ذلك كان يرى أن الدين يُعد ضامنا ضروريا للنظام الاجتماعي. ومن رواده كذلك "دينيس ديدرو" الذي كان يرى أنه يجب حذف كل اعتقاد غيبي أيّا كانت الحجج التي يستند إليها، أو الهيبة الفوقية التي يرتكز عليها، فهذه هي الوسيلة لتحرير الإنسان من الخرافات والعبودية، وفتح أبواب السعادة أمامه على مصراعيها. وكان أشد روّاد الاتجاه الثالث إلحادا البارون دي هولباخ، الذي هاجم الديانة المسيحية بشكل عام، واعتبرها عائقا أمام التقدم الأخلاقي للإنسانية، وأعلن رفضه وجود إله، وأنه لا ضرورة للجوء إلى قوى خارقة للطبيعة لتفسير وجود الأشياء.

أما الثورة العلمية، فقد برز فيها 4 اتجاهات، الاتجاه الأول أخذ موقفا متوازنا بين العلم والدين، مع الدعوة إلى ضرورة الفصل بين الدين والعلم، ومن رواده "فرانسيس بيكون" و"جون لوك". والاتجاه الثاني، كان يعتقد بوجود إله واحد للكون، ويرى أن عبادة المسيح كإله تعدّ خطيئة كبرى كعبادة الأصنام، ولا يعترف أتباعه إلا بنتائج التجارب العلمية المثبتة، ويرفض إدخال الدين في العلم، ومن رواده "إسحق نيوتن". والاتجاه الثالث يتعامل مع الذات الإلهية باعتبارها أحد الموجودات المادية، فهو يرى أن الرب "كائن مادي" وبالتالي لا بد أن يخضع لقوانين الفيزياء، ومن رواده "توماس هوبز" و"ديفيد هيوم". أما الاتجاه الرابع، فكان اتجاه "إيمانويل كانط" الذين جمع بين الدين والعقل والعلم، ولكن الدين الموجود في العقل المتصل بالخالق، والذي لا يحتاج إلى إيمان بالأنبياء والوحي والمعجزات، ووضع نظريته الأخلاقية التي حوّل فيها الأخلاق إلى قوانين، وميّز فيها بين القوانين الأخلاقية الصادرة عن العقل ذي الإرادة الحرة، والأخلاق الطبيعية الصادرة عن الدين والطبيعة البشرية والقيم الاجتماعية. واعتبر فيها أن القوانين الأخلاقية قوانين ملزمة بالضرورة، يساهم الأفراد في تشريعها بإرادتهم الخاصة عن طريق الهيئات التمثيلية، ويلتزمون بها كواجب أخلاقي قطعي، بغض النظر عن تلبيتها أو عدم تلبيتها للمنافع الذاتية.

يوضح لنا الاستعراض السابق أن محاولات فصل الدين عن السلطة السياسية والأخلاق والعلم، تُحقق تقدما حقبة تلو أخرى، وجيلا بعد جيل، فهل كانت هذه المحاولات ونجاحاتها المتعاقبة مجرد تطور طبيعي أم أنها كانت بفعل فاعل؟ وهل صحيح ما يتردد من أن معظم فلاسفة عصر التنوير كانوا أعضاء في المحفل الماسوني؟

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان