إنها لعبةٌ كما تعود الجميع أن يطلق عليها طوال فترة ما قبل السبعينيات التي سادت فيها قيم اللعبة، المرتكزة على المرح والمتعة والإبداع إلى أن جاء هؤلاء الذين تسببوا في الحرب الفيتنامية، والأزمة الاقتصادية العالمية، واليمين المتطرف، فأطلقوا عليها اسم رياضة، وحاولوا أن يقنعونا طوال نصف قرن كامل، بأنها لا يجب أن تظل في رحم الدولة، وأن الاستثمار فيها هو الأجدى.
نصف قرن منذ ظهر مدربو المنتخبات الأفريقية، بملامحهم الأوروبية في مقاعد الإداريين في بطولة الأمم الأفريقية وبطولة ألعاب أفريقيا، يكتبون على أوراقهم ملاحظات حول اللاعبين في الملعب، ليس لتوجيه ملاحظات لهم، بل لتقدير أسعارهم في سوق اللاعبين الأوروبي.
اللعبة التي كان المضطهدون متأكدين حينما يأتي موعدها بأنهم سيستمتعون بكل لحظة فيها، اليوم أصبحوا يجلسون في المدرجات، وطوال الـ90 دقيقة، ينظرون إلى السماء في استجداء لتمريرة جيدة، أو حركة معقولة، أو هدف له طعم، ينظرون إلى السماء أكثر مما ينظرون إلى أقدام اللاعبين، فعلى الأقل كانت السماء تقدم لهم التعزية لكونهم فقراء، أما أقدام اللاعبين فقد كانت مغطاة بأحذية تتجاوز قيمتها راتب 3 أو 4 أشهر على الأقل من رواتبهم الزهيدة.
لم تكن اللعبة تدر دخلاً يكفي أي لاعب لأن يؤسس منزلاً أو يصرف منه على عائلته، فكانوا يتعاملون مع اللعبة بأنها متعة وليست مهنة
اللعبة التي جاءت من أجل تعزيز روح التنافس بين المضطهدين ومن يضطهدهم، والتي سمحت لمن كان يهرب كالفريسة لأن يصبح يومًا ما صيادًا، اليوم فقدت تلك القيمة، فالفريسة عادت لتكون فريسة، والصياد استعاد أدواته وقدراته وأصبح لا يصطاد فريسته من أجل إشباع رغبة الصيد في داخله، وإنما ليسلخ جلدها ويبيعها لمن يدفع الثمن.
يقول صاحب كتاب "إحدى عشرة قدمًا سوداء..": نحن في أفريقيا، تظل كرة القدم في أزقتنا وساحاتنا الشعبية لعبة، نلعبها بقواعدنا وليس بقواعد الزمن الحديث، ولهذا تظل أفريقيا تمنح أبناءها إلى أوروبا لكي يملؤوا فراغ اللعبة التي يطلقون عليها هناك "رياضة".
وكان ذلك ماثلاً أمام أعيننا في مباراة فرنسا والمغرب الأخيرة في مونديال 2022 بقطر، لقد كان المنتخب الفرنسي أفريقيًّا بامتياز، لاعبوه من القارة السمراء، فانتصر السمر على السمر وفازت أفريقيا على أفريقيا، وكأنك تشاهد مباراة ودية بين أفارقة.
حين يصل اللاعب إلى مشارف الثلاثينيات، يكون قد تحول إلى بقايا إنسان، ولا يتبقى منه سوى الأموال التي يظل يصرف منها طوال العمر المتبقي على محاولة علاج ما تم تدميره في جسده
عندما مات اللاعبون
في الـ50 سنة الأولى من القرن الماضي، كان اللاعبون يموتون أحيانًا فقراء، أو بأفضل الأحوال كأبناء الطبقة الوسطى، حيث كان أغلبهم موظفين في مصانع أو شركات أو لديهم حرف خاصة بهم.
لم تكن اللعبة تدر دخلاً يكفي أي لاعب لأن يؤسس منزلاً أو يصرف منه على عائلته، فكانوا يتعاملون مع اللعبة بأنها متعة وليست مهنة، لذلك كانت أعمار اللاعبين في الملاعب تتجاوز أحيانًا الـ30 والـ40 عامًا، وأحيانًا تصل إلى الـ50.
بينما اليوم وفي ظل تحول اللعبة إلى رياضة، واستنزاف اللاعبين في التدريبات والمباريات المتتالية، وتحويل اللاعبين إلى ماكينات إنتاج، يتم القضاء على اللاعب في سن مبكرة.
وحين يصل اللاعب إلى مشارف الثلاثينيات، يكون قد تحول إلى بقايا إنسان، ولا يتبقى منه سوى الأموال التي يظل يصرف منها طوال العمر المتبقي على محاولة علاج ما تم تدميره في جسده.
وتحولت المباريات نتيجة ذلك إلى جنائز، فاللاعبون يتساقطون من فرط الإجهاد موتى على أرض الملعب، وبدلاً من أن يذهب الجمهور لكي يستمتع بالمباريات، أصبح يذهب لتوديع اللاعبين.
يقول "روبين فان بيرسي" لاعب "نادي أرسنال": بعد كل مباراة أنت تستنزف بالكامل وأنا لا أعني فقط جسديًّا، بعد المباراة تشعر بالألم ولكنه نوع آخر من الألم، تشعر وكأن رئتيك وساقيك ستنفجر جميعها
لقد سقط المئات من اللاعبين موتى من دون أن يشيروا بالوداع لجماهيرهم، ماتوا بسبب أزمة قلبية. عضلة القلب لا تتحمل ما تتحمله العضلات الأخرى، القلب أصبح يلهث وراء السرعة الخارقة للأقدام، ولذلك يصبح القلب عبئًا على الجسد، فيتوقف فجأة حينما يشعر أنه لا فائدة من إيقاف تلك الفائدة البشرية.
"صمويل أوكواراجي" كان أول الضحايا سنة 1989، وسقط "أمير أنجو"، ثم مات الهادي بالرخيصة "وجون إيكوروما"، وكذلك توفي يوسف بلخوجة و"مارك فيفان"، و"إندورانس إيداهور" ومحمد عبد الوهاب لاعب الأهلي المصري، ومات "باتريك إيكينج"، و"تشاسوي نسوفوا"، وجواد أقدار، وسقط غيرهم كثيرون بسبب طمع الذين جاؤوا من وراء البحار يتجارون بهم.
يقول "روبين فان بيرسي" لاعب "نادي أرسنال": بعد كل مباراة أنت تستنزف بالكامل وأنا لا أعني فقط جسديًّا، فبعد المباراة تشعر بالألم ولكنه نوع آخر من الألم، تشعر وكأن رئتيك وساقيك ستنفجر جميعها.
اللعبة التي تحولت إلى رياضة، ومن رياضة إلى تجارة، ومن تجارة إلى نخاسة، يباع فيها البشر ويموت فيها اللاعبون نفسيًّا ومعنويًّا آلاف المرات إرضاءً للتاجر، فقدت هذه اللعبة أهم مكونات الإنسانية، وهي أنها لعبة وليست شيئًا آخر.
- ملاحظة: المقال اعتمد في مادته على كتاب "إحدى عشرة قدمًا سوداء" للكاتب المصري: محمود العدوي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.