لكل حدث مهما عظم شأنه نهاية، ها نحن نلملم أيام وساعات ما بعد الزلزال المدوي الذي هز جزءا من عالمنا القريب، ونعبر الحدث المهول سريعا. الأرض سكنت مجددا واسترخت بعدما امتلأ جوفها بالبشر والحجر بفعل زائر ثقيل باغتها ذات فجر فابتلعت ما ابتلعته وأشعلت بلحظات بورصة الموتى إلى أن نجا من مات ومات من نجا، نعم فهنا فقط يتعادل الموت في سباقه مع الحياة أو يتواطآن معا ربما، حيث صعد عداد ريختر المشؤوم مزهوا بحصاد ضحاياه ومن لم تقتله ثواني الارتجاج عاش منكوبا متوجا بصفات اليتم والتشرد وغيرها، ينتظر حبيبا على ضفة النهر المتدفق بالجثث.
فقدت أرضنا الأم رصانتها على غفلة منا واستفاقت الشمس تنير تلالا من الركام والأنقاض، وما ظنه الإنسان حضارة وتطورا وبناء يأويه ويحميه سرعان ما هوى وأطبق على أنفاس من فيه، وتلاشت الطبقية بين الطوابق المنهارة وتاهت العيون عاجزة عن التقاط المشاهد التي هاجمتنا بعنف زواياها، ولم نعد نسمع سوى أصوات الأنين المنكسرة تسافر مع الأثير ونتهيب صور أطفال قدر لبعضهم أن يرضع حليب الحياة فيما نام آخرون نومة لا يقظة بعدها.
الآن وقد سكت الأنين وكتب ما كتب ولم يبق سوى أولئك العائدين من الموت يتلمسون ضوءا وسط حطام الظلام الذي حل بهم، ماذا فعلت أنت أيها الإنسان ممن نأت بك الطبيعة عن غضبها الأخير؟ أنتم أيها الأحياء في البلاد الشقيقة والمجاورة؟ يا أبناء هذه الأمة؟ نعم، ثمة من ذهل وصدم وهب متضامنا، وثمة من ذرف دمعا أو أقام صلاة في مسجد أو كنيسة، كذلك انهالت برقيات التعزية يقابلها برقيات الشكر والمديح للبعض من حكومات وهيئات أنفقت ما تيسر دعما وإغاثة، لكن ذلك كله بدا على شكل موجة عاتية تقذف بنفسها وحيدة في بحر هادئ لم تحرك الرياح فيه قطرة، إذ وجدنا أن انزلاق الأرض مع ما يكتنزه ذلك من تفسيرات وتحليلات علمية وجيولوجية، ترافق مع انزلاق آخر، انزلاق أخلاقي وإنساني جديد لا قاع له ولا تفسير.
هل راودك يوما عزيزي الناجي أن ما سيصلك من مساعدات وصدقات على طريق عودتك من الموت سيدخل في خانة ما يسمى الترند والتحدي والمنافسة بل وخضع للتباهي حينا وللتأرجح حينا آخر بين الأهواء السياسية والانقسامات الحزبية والفئوية
يقول تولستوي: "في مآسي الآخرين وانكسارهم إياك أن تبتسم، تأدب في حضرة الجرح أو مت وأنت تحاول". لكن كثيرين -يا عزيزي النائم- حينها تحت الدمار، حيا كنت أو ميتا، لم يتأدبوا ولم يحاولوا حتى، بل شاهدنا ما شاهدناه على شاشاتنا ومنصاتنا ومواقعنا من رسوب محقق لهؤلاء في امتحان الضمائر. لن أحدثك هنا عن الغرب الممتلئ حد التخمة بشعارات ميزانها المصالح والمكاسب، الغارق في الابتذال والمثاليات المزيفة والمطمئن لوكر سياساته الاستعمارية وللنياشين وأقواس النصر التي تجعل منه دولا عظمى ومتحضرة كما يدعي. لكن نظرة بسيطة على شرقنا ووجهنا العربي تظهر أن الجزء الأكبر منه ليس بأفضل حال. فكأنما الحداد والانحناء حزنا لهول مآسينا قد خفت وهجه إلى حد كبير ورخص بنا الموت وسط الغلاء الفاحش فلم نعد نهاب وقوعه، وأصاب داء الخمول مشاعر أبناء هذه الأمة وبخلوا بها بعدما تاهت في مكان آخر تماما.
هل تعلم عزيزي الغافي تحت الدمار، حيا كنت أو ميتا، أنه وبينما كانت أيدي من معك من أطفال وعجائز تتسلل ليلا بين قطع الإسمنت والحجارة علها تنتشل من براثن الموت، كان في محيطنا العربي آخرون يتسللون بأيديهم أيضا وسط الزحام والضوضاء ليصافحوا راقصة أو مغنية على خشبة مسرح! وبينما كانت الأمعاء الجائعة ترفع أنين أمهات ومسنين وأطفال تحت الأبنية المنهارة، لم تهدأ للحظة الفقرات اليومية لمن يصنفون أنفسهم مؤثرين في مجتمعاتنا عن تقديم ألوان الطعام والشراب ولوحات الإغراء وعروض الفن الهابط على منابر أجيالنا الصاعدة "كالتكتوك" وأخواته.
أكثر من ذلك هل راودك يوما عزيزي الناجي أن ما سيصلك من مساعدات وصدقات على طريق عودتك من الموت سيدخل في خانة ما يسمى الترند والتحدي والمنافسة، بل وخضع للتباهي حينا وللتأرجح حينا آخر بين الأهواء السياسية والانقسامات الحزبية والفئوية، وتنازع غذاءك وملبسك منه موالون ومعارضون وسقط بعضه ضحية الاستيلاء والسرقة تحت مبررات هنا وهناك.
أيضا وبينما كنت عزيزي الناجي تأوي أنت ومن معك تحت ظل خيمة وتتسع حقول الجثث من حولكم بالأعداد المتلاحقة للموتى، كان آخرون يغرفون من نهر أحزانكم مواد جاهزة لحملات التشويه وبث السموم والتهجم على هذا وذاك.
غادرتنا الأنسنة فاستسلمنا للقسوة، اختمرت المادة في عقولنا، ننتشي مزهوين بحروبنا الطاحنة وبرأسمالية أفنت قيمنا ومبادئنا، لا قرار لنا، نحن ضحايا رسائل تبدأ بفعل أمر وتنتهي بجواب السمع والطاعة
إنه لقليل من كثير الخذلان العربي، ومما كان أهل السياسة والفن والنخب والعامة يلهون به على أنقاض الفاجعة. فلك أن تنظر إلينا نحن الأحياء حتى الساعة نسبح عراة في فلك إنسانية هشة متصدعة، لا نلتفت لحاضرنا ولا لمستقبلنا، طوعتنا المادة لإرادتها فأحكم المال قبضته على تفاصيل أحلامنا وانخرط معظمنا في سباقات الشهرة والثراء، ولم يعد يعنينا عداد ريختر كما يعنينا عداد الإعجاب والمتابعة وسطور الإطراء والتملق، أخذتنا مباهج القرن الـ 21 رهينة للقشور والسطحية والمتعة الزائفة، تكتسحنا الأمراض والحروب والمجاعات ولا نبالي، نعيش موتنا السياسي ونفاخر طلاقنا الكاثوليكي مع القيم والأخلاق ولا نبالي، بعض أنظمتنا البائسة لا تنتج سوى التبعية، مدارسنا لم تعد تنجب سوى المزيد من الأجيال التائهة تحت وطأة سطو ممنهج للعقل العربي والإنساني، أما مرجعياتنا الأخلاقية والدينية فتراجعت إلى الخطوط الخلفية عاجزة عن مواكبة التوحش الكوني المتفلت.
نعم، غادرتنا الأنسنة فاستسلمنا للقسوة، اختمرت المادة في عقولنا، ننتشي مزهوين بحروبنا الطاحنة وبرأسمالية أفنت قيمنا ومبادئنا، لا قرار لنا، نحن ضحايا رسائل تبدأ بفعل أمر وتنتهي بجواب السمع والطاعة، نحاصر نجوع نموت، لا بواكي لنا بل لم نعد نبكي أنفسنا، نكتفي بمشهدنا السوريالي، صورنا المفلترة والمبهرجة، شوارعنا المضيئة، حفلاتنا المترفة أناقتنا سياراتنا، نبحر ونغوص في بحر الفراغ ظنا منا أنه مبلغ الانعتاق والسعادة.
ربما هرمت الأرض بأفعالنا وشاخت فأنذرتنا، لكن اعذرينا أيتها الأرض، لم يعد مسموحا للإنسانية بأن تقول كلمتها ولا متسع لها من الوقت للوقوف على الجراح، وأنت أيها الزلزال، كأنما أتيت لتحصد ما زاد عن حاجة الحياة، تماما كنظرائك من فواجع الفقر والتشرد والحروب والمجاعات، أتيتنا زائرا غادرا تحمل لنا باقة جديدة من الآلام والمآسي المفتوحة التي عرت قبحنا نحن الناجين منك وحملتنا أحياء لا صوت لنا إلى مثوانا الأخير في مدافن الإنسانية..
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.