شعار قسم مدونات

صراع الأخلاق.. هل كانت الماسونية مهندسة عصر التنوير؟ (18)

عدسة الجزيرة نت تلتقط صورا لبعض الأماكن التي تمارس فيها طقوس الماسونية في أحد معابدهم باليونان
أحد المعابد في اليونان الذي يمارس فيه الماسونيون طقوسهم (الجزيرة)

الحديث عن عصر التنوير يرتبط ارتباطا موضوعيا علميا بالحديث عن الحركة الماسونية، ليس من باب النظرية التآمرية التي تدفع الكثيرين إلى اعتبارها أم الشرور التي تعاني منها البشرية منذ نشأتها قبل أكثر من 3 قرون، وإنما من باب إظهار دورها الحقيقي في هذا العصر وفقا لما انتهت إليه العديد من الدراسات الغربية المتخصصة التي سنقتصر عليها دون غيرها، كونها ليس لها موقف عدائي تجاه الماسونية على نحو ما هو موجود لدى العرب والمسلمين، بل تعترف لها بالفضل والتقدير على الدور الكبير الذي قامت به في إحداث التحول الاجتماعي والسياسي في الدول الغربية، وترسيخ المبادئ التي تحافظ على حقوق الإنسان وحريته ورفاهيته دون انتهاك أو تمييز.

جميع رواد وقادة عصر التنوير البارزين كانت لهم صلات بالحركة الماسونية، حيث تداخلت مبادئ التنوير مع مبادئ الماسونية، وبالتالي تم دعمها من قبل المحافل الماسونية التي سرعان ما تحولت إلى وسيلة ناقلة للفكر الليبرالي ونشر مفاهيم الملكية الخاصة والحرية

وتنبع أهمية تناول هذا الموضوع ونحن في سياق حديثنا عن صراع الأخلاق ودور عصر التنوير في الانحراف بالأخلاق إلى مسارات جديدة بعيدة عن مرجعياتها الدينية والاجتماعية لتوضيح النقاط التالية للجمهور العربي والإسلامي على وجه الخصوص:

  • تأكيد العلاقة المتلازمة بين الماسونية وعصر التنوير، خاصة في القرن الـ18 الميلادي، وأنها علاقة قطعية مثبتة غير متوهمة.
  • تأكيد دور الماسونية في إحداث التغيير السياسي الذي شهدته الدول الغربية أواخر هذا القرن.
  • نفي صفة النظرية التآمرية عن تناول هذه العلاقة وهذا الدور بعيدا عن التأويل أو الانطباع أو تطويع الحقائق التاريخية لتأكيد مزاعم عدائية مسبقة.
  • تأكيد ضخامة الدور الذي تقوم به الماسونية العالمية التي تحتفل هذه الأيام بمرور 313 عاما على تأسيسها رسميا في بريطانيا.
  • إظهار حجم التوجيه والسيطرة الذي تقوم به الماسونية على المشهد السياسي والاقتصادي والفكري والاجتماعي العالمي.

أسباب واتجاهات

عكف الباحثون الغربيون على دراسة العلاقة بين الماسونية وعصر التنوير، ودور الماسونية في توجيه الفكر الديني والاجتماعي والسياسي للمجتمعات الغربية، وأمامهم العديد من الظواهر المطردة، على رأسها:

  • التزامن الشديد بين انتشار المحافل الماسونية في أوروبا والأفكار التي تدعو إليها مع انتشار الأفكار التنويرية في أوروبا، بل كانت تصل أحيانا إلى حد التطابق.
  • التشابه الكبير بين المبادئ التي تتبناها الماسونية والمبادئ التي يدعو إليها رواد عصر التنوير الخاصة بالدين والأخلاق والإنسان والنظام السياسي.
  • النشاط الواسع الذي كانت تقوم به المحافل الماسونية في رعاية رواد التنوير وتنظيم محاضراتهم بغض النظر عن مواقفهم الدينية والسياسية والاجتماعية.
  • انضمام عدد كبير منهم إلى الحركة الماسونية، وتقلد مناصب عليا في محافلها، والاحتفاء بهم وتبنّي أفكارهم وأطروحاتهم.
  • التشابه الشديد بين المؤسسات التي تم تأسيسها في الدول الغربية المركزية والأدوار التي تقوم بها على أيدي المحافل الماسونية ورواد التنوير.
  • تقديم المحافل الماسونية -على خلاف مبادئها الأساسية- الدعم الكبير للتحولات السياسية في الدول الأوروبية التي انطلقت بتأثير الفكر التنويري.
  • النجاح العالمي الكبير الذي حققته الماسونية في الانتشار على المستويين الوطني والعالمي، والتوسع في عدد المحافل وعدد المنتسبين الذي تجاوز 5 ملايين عضو، وتكيفها لتتسع للنساء ولجميع الأجناس والأعراق.

ونظرا للغموض الذي تكتسي به الحركة الماسونية وشعاراتها ورموزها والسرية التي تحيط بالكثير من طقوسها وشعائرها ونجاحها في تجنيد العديد من الزعماء والقيادات والنخب الاقتصادية والفكرية والاجتماعية والعلمية في عضويتها فقد برزت 3 اتجاهات في تناول الماسونية عامة وعلاقتها بالتنوير خاصة.

وقد أكد الاتجاه الأول بما لا يدع مجالا للشك العلاقة العضوية المتلازمة بين الماسونية وعصر التنوير، وهو ما ذهب إليه أغلب الباحثين والدارسين، وعلى رأسهم الأكاديمية الأميركية الدكتورة مارغريت جاكوب أستاذة التاريخ في جامعة كاليفورنيا بالولايات المتحدة.

أما الاتجاه الثاني فنفى وجود هذه العلاقة بحجة عدم وجود وثائق تدعم ذلك، ومن أبرز هؤلاء الأكاديمي البريطاني الدكتور جوناثان إسرائيل المتخصص في التاريخ الهولندي وعصر النهضة ويهود أوروبا.

وتبنى الاتجاه الثالث النظرية التآمرية والبحث في أسرار الغموض الذي يكتنف الحركة الماسونية منذ نشأتها وحتى اليوم، وسنقتصر في تناولنا هنا على الاتجاه الأول.

انتشار الماسونية السريع في أوروبا في القرن الـ18 الميلادي أتاح لها أن تلعب دورا سياسيا كبيرا في تشكيل الأنظمة السياسية للدول الغربية أواخر عصر التنوير وبدايات القرن الـ19 الميلادي

خلاصات متشابهة

في دراستها تحت عنوان "العقل والحرية والعلم.. مساهمة الماسونية في عصر التنوير" خلصت الدكتورة مادالينا كالانس أستاذة الاقتصاد وإدارة الأعمال في جامعة إياسي برومانيا إلى أن البحث التاريخي لهذه الحقبة يظهر تماما أن هناك حركة بأكملها تقف من وراء ستار وتعمل على نشر الأفكار التنويرية وتدعم التغييرات المترتبة عليها بواسطة الفلاسفة والمفكرين الذين انتشروا في كل أوروبا عن طريق المحافل الماسونية، وانتهت الدكتورة كالانس إلى أن:

  • جميع رواد وقادة عصر التنوير البارزين كانت لهم صلات بالحركة الماسونية.
  • مبادئ حركة التنوير تتداخل مع مبادئ الحركة الماسونية، وبالتالي تم دعمها من قبل المحافل الماسونية الإنجليزية والأميركية والفرنسية.
  • الماسونية تحولت تدريجيا إلى وسيلة ناقلة للفكر الليبرالي ونشر مفاهيم الملكية الخاصة والحرية في دول أوروبا والمحيط الأطلسي.

وأوضحت كالانس أن الطروحات الفلسفية ليست كافية لنجاح فكرة أو تسويق نظرية، فقوة الفكرة تعتمد على عدد أنصارها وقوتهم، ومن هنا نجد أن الماسونية كانت تدعم قادة التنوير الذين يؤيدونها، ولولا هذا الدعم لظلت مبادئ إسحق نيوتن مجهولة حتى اليوم، حيث كان نيوتن مقربا من الدوائر الماسونية وتقلد العديد من المناصب العليا مما سنتناوله بالتفصيل في المقال القادم بإذن الله.

انتشار الماسونية السريع في أوروبا في القرن الـ18 الميلادي أتاح لها أن تلعب دورا سياسيا كبيرا في تشكيل الأنظمة السياسية للدول الغربية أواخر عصر التنوير وبدايات القرن الـ19 الميلادي.

وعن هذا الدور تشير الدكتورة مارغريت جاكوب في كتابها "العيش في عصر التنوير.. الماسونية والسياسة في أوروبا القرن الـ18 الميلادي" إلى أن مئات المحافل الماسونية التي تأسست في أوروبا خلال القرن الـ18 الميلادي كانت من بين أهم الجيوب التي تشكل فيها المجتمع المدني الحديث، في بريطانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا وألمانيا، حيث سعى الماسونيون إلى إنشاء نظام أخلاقي واجتماعي قائم على العقل والفضيلة وتكريس مبادئ الحرية والمساواة.

وفي هذه الجيوب التقى الفلاسفة برجال التجارة والحكومة والمهن، حيث أنشأت الماسونية داخل أنظمتها أشكالا جديدة من الحكم الذاتي أشبه بعالم مصغر كامل مع الدساتير والقوانين والانتخابات والممثلين.

ويوضح الدكتور ديفيد هاريسون في كتابه "جون ثيوفيلوس ديساجليرز وولادة الماسونية الحديثة" أن مدينة لندن كانت في أوائل القرن الـ18 الميلادي زاخرة بشبكة من النوادي الاجتماعية والسياسية والجمعيات التي كانت تجتمع في المقاهي والصالونات والحانات تحت ظلال كاتدرائية القديس بولس.

كانت فترة مثيرة مليئة بالمناقشات حول الفلسفة السياسية للفيلسوف جون لوك والمشاريع المحتملة لكسب المال والفلسفة الطبيعية التجريبية للفيلسوف التجريبي إسحق نيوتن.

كانت هذه المؤسسات بمثابة النوادي المجانية، حيث يمكن للسادة والرجال أن يجدوا شراكة متشابهة في التفكير ويقرؤوا أحدث الكتيبات ويديروا شؤون العمل.

وكانت الماسونية أهم وأحدث الكيانات التي التقت في هذه المؤسسات، وقد أدت إعادة تنظيمها وتحديثها في عام 1717 ميلادي إلى إنشاء مصفوفة رعاية وطنية أكبر تحت المحفل الماسوني العظيم الجديد في بريطانيا، حيث أصبحت السيطرة المركزية على الماسونية كمجتمع سري ذات أهمية حيوية خلال هذه الفترة السياسية الحساسة المليئة بالتوترات والاضطرابات.

وقد خلصت الدكتورة جاكوب في دراستها بعنوان "عصر التنوير كما عاش المصلحون الماسونيون الأوروبيون أواخر القرن الـ18 الميلادي" إلى أن أوروبا الغربية خضعت أواخر هذا القرن إلى عملية تحول فكري وسياسي لعبت فيه الماسونية دورا خاصا مهد للدور الذي ستلعبه في الحياة السياسية في القرن الـ19 الميلادي، خاصة في البلدان الكاثوليكية في أوروبا وأميركا اللاتينية، حيث نرى كيف تبنت الماسونية الإصلاحات العلمانية في التاريخ السياسي والفكري في أوروبا منذ سبعينيات القرن الـ18.