شعار قسم مدونات

فارس الخوري في ذكريات الشيخ علي الطنطاوي

فارس الخوري (الصحافة السورية)

كان فارس الخوري أحد عباقرة العرب في هذا العصر علما وفكرا وبيانا. وربّ عالم واسع المعرفة كثير الاطلاع لكنه غير مفكر، ورب مفكر سديد الفكر بعيد الغور ولكنه ضيق المعرفة، ورب عالم مفكر لكنه ضعيف البيان عيي اللسان. أما فارس الخوري فقد جمع الله له الثلاثة (ذكريات الشيخ علي الطنطاوي- الجزء الثاني- الصفحة 205).

أفرد الشيخ علي الطنطاوي، الأديب والقاضي السوري، في كتابه "ذكريات علي الطنطاوي"، حلقة خاصة عن أستاذه فارس الخوري، وقد قبست أكثر ما قاله الطنطاوي عن أستاذه وجعلته مادة هذا المقال.

يقول الشيخ علي الطنطاوي: عرفت فارس الخوري من قرب فرأيت فيه رجلا وديعا ظريفا حليما واسع الصدر، ولكنه كان -مع هذا كله- هائلا مخيفا؛ تراه أبدا كالجبل الوقور على ظهر الفلاة، لا يهزه شيء ولا يغضبه ولا يخرج به إلى الحدة والهياج.

يدخل أعنف المناقشات بوجه طلق وأعصاب هادئة، فيسد على خصمه المسالك ويقيم السدود، من المنطق المحكم والنكتة الحاضرة والسخرية النادرة والعلم الفياض والأمثال والحكم والشواهد، يرقب اللحظة المناسبة، حتى إذا وجدها ضرب الضربة الماحقة وهو ضاحك، ثم مدّ يده يصافح الخصم الذي سقط.

لا يرفع صوته ولا يثور ولا يعبس ولا يغضب، ولكنه (أيضا) لا يفر ولا يغلب. ما رأيته -على طول صحبته- يناقش أحدا إلا شبهته بأستاذ يناقش تلميذا مدللا غبيا، فأنت تلمس في لهجته ولحظته وكلمته وبسمته صبره عليه، وتملكه منه، وإشفاقه عليه!

كان علما من أعلام السياسة وكان وزير المالية، وكان قبل ذلك (أي سنة 1912) نائبا عن دمشق في مجلس "المبعوثان" (جمع فارسي لكلمة مبعوث)، أي مجلس النواب العثماني.

اللقاء الأول.. فارس الخوري الشاعر

يقول الشيخ علي الطنطاوي: أقيمت في ردهة المجمع العلمي العربي (مجمع اللغة العربية) في دمشق سنة 1927 حفلة لتكريم حافظ إبراهيم لما زار دمشق، حضرتها أنا وأخي سعيد الأفغاني، وكنا يومئذ في ريق الشباب على أبواب العشرين من العمر، نقصد هذه الحفلات لننقد الخطباء ونبتغي لهم المعايب، فمن لم نعب فكرته عبنا أسلوبه ومن لم ننتقص إنشاءه انتقصنا إلقاءه! وخطب في الحفلة كثير، وكان فيمن خطب رجل قصير القامة كبير الهامة أبيض الشعر، ألقى قصيدة لا أزال أذكر أن مطلعها كان: ليالي التصابي قد جفاني حبورها/ ولمتي السوداء أشرق نورها وهي طويلة، أقول إنها قصيدة جيدة، ألقاها بصوت كان قويا على انخفاض، مدويا على وضوح كأن له عشرة أصداء تتكرر معه، فتحس به يأخذك من أطرافك ويأتي عليك من الأقطار الأربعة، فتسمعه بأذنيك وقلبك وجوارحك، بل تكاد تلمس فيه شيئا ضخما.. على صحة في المخارج، وضبط في الأداء، وقوة في النبرات، وثبات في المحطات. هذا الصوت الذي له هذا الدوي كله يخرج من فم صاحبه باسترسال واسترخاء، لا يفتح شدقه ولا يمد نفسه ولا يجهد نفسه، فأنسانا أن ننتقد القصيدة أو نجد لها العيوب، وملك بها قلوبنا وقلوب الحاضرين، فصفقنا حتى احمرّت منا الأكف. وقلت لسعيد: من هذا؟ قال: هذا فارس الخوري.

عضو مجلس "المبعوثان"

وكنت قد سمعت باسم فارس الخوري قبل ذلك بزمان، من سنة 1919، وكنت تلميذا في السنين الأواخر من المدرسة الابتدائية وكان هو علما من أعلام السياسة وكان وزير المالية، وكان قبل ذلك (أي سنة 1912) نائبا عن دمشق في مجلس "المبعوثان" (جمع فارسي لكلمة مبعوث)، أي مجلس النواب العثماني، وعيّن بعد الحرب (الحرب العالمية الأولى) أستاذا في معهد (أي كلية) الحقوق.

كان يشعر كل من يلقاه أنه صديقه الأوحد وأنه أقرب الناس إليه، وأنه لا يشتغل إلا بذكره ومعرفة أمره.

أستاذا في كلية الحقوق

ثم كنت تلميذه في كلية الحقوق، وكان يدرس "علم المالية" و"أصول المحاكمات المدنية"، يلقي درسه إلقاء لا تدري أأنت تعجب وتطرب لفصاحة نطقه أم لغزارة علمه، إلقاء غير محتفل به ولا متجمع له. وكانت له عادة (لازمة) هي أن يأخذ قلما رصاصيا طويلا (مرسمة) فيقيمه على قاعدته وهو يسقط وهو يداريه ويعاوده حتى يستقر ولا يكاد، كأنه يكره أن تبقى يده بلا عمل فهو يشغلها به، أو كأن هذا الدرس لا يستحق انتباهه كله ولا يملأ هذا الرأس الكبير، فيأخذه على أنه لهو وتسلية! على أن هذا (وإن فعله أستاذنا) مما لا يحسن بالمعلم لئلا يسرق انتباه الطلاب بما يصنع عما يقول، كما لا يحسن به أن يكون في هيئته أو في لهجته شيء غريب يشغل به الطلاب عن درسه.

وكنا نورد عليه في آخر الساعة أسئلة من كل فن ومشكلات في كل موضوع، فيجيب عليها بتحقيق العالم أو نكتة الأديب.

فارس الخوري الحليم الوقور

ومن عجائب حلمه وسعة صدره ووقاره الذي لا يزلزله شيء أني أقبلت عليه مرة بعد الدرس (وكانت لي عليه جراءة) فقلت له أمام الطلاب: يا أستاذ، ما هذا القرار السخيف الذي وضعته البلدية لتقسيم أرض الدرويشية؟ وكانت الدرويشية حيا من أبهى وأغنى أحياء دمشق هدمته مدافع الفرنسيين وأحرقته نارهم. وقلت له: أليس من العار أن يصدر عن بلدية دمشق مثل هذا الجهل وهذا الظلم وهذا الـ… في عشر مترادفات من هذا النمط ساق إليها نزق الشباب. فلما انتهيت منها قال لي والابتسامة لم تمح عن شفتيه: "أنا الذي وضع صيغة هذا القرار". وراح يشرح لي مزاياه، ولكني لخجلي لم أستطع أن أستوعب ما قال.

وخرجت من الكلية، فكنت ألقاه في الترام أو ألمحه في الطريق، فأجد من إيناسه لي وسؤاله عني ما يملأ نفسي شكرا. وهذه مزية من مزاياه، يشعر كل من يلقاه أنه صديقه الأوحد وأنه أقرب الناس إليه، وأنه لا يشتغل إلا بذكره ومعرفة أمره.

كانت تشتبك الآراء وتتداخل المقترحات وتشتد المنازعات وتثور الحزبيات، فما هي إلا أن يتكلم ويلخص الموقف ويفسر الأقوال ويبين المقاصد حتى يقرب البعيدين ويجمع الشتيتين.

رئيس مجلس النواب ورئيس الوزراء

ومرت الأيام وصار رئيس مجلس النواب، فكانت رياسته عجبا من العجب. وكان الوافدون على دمشق إذا رأوا آثارها ووعوا مآثرها طلبوا أن يروه في المجلس ليحدثوا قومهم إذا رجعوا إليهم بجليل ما رأوا.

كان النواب بين يديه (ولا مؤاخذة يا سادتي النواب) كالتلاميذ، بل إن أكثرهم كانوا تلاميذه فعلا، وكان يصرفهم تصريفا لا يوصف ولا يثبت على الورق، وما هم بالذين يسيرون أو يصرفون، وإن فيهم لكل بلقعة داهية ذرب اللسان حديد الجنان، آفة من الآفات يطيح بالحكومات وينسف الوزارات، ولكن الحدأة تسطو على العصافير فإن قابلت النسر المضرحي عادت هي عصفورا.

وكانت تشتبك الآراء وتتداخل المقترحات وتشتد المنازعات وتثور الحزبيات، فما هي إلا أن يتكلم ويلخص الموقف ويفسر الأقوال ويبين المقاصد حتى يقرب البعيدين ويجمع الشتيتين، ويصب على جمرات الغضب سطل ماء، ويسلّ الرأي الموافق من بين الآراء المتشابكة سل الشعرة من العجين ويعرضه للتصويت.

ودخلت عليه مرات لا أحصيها وهو رئيس الوزراء، فما وجدت إلا أستاذنا فارس الخوري، الأستاذ العالم الأديب الحاضر الجواب الصائد النكتة.

شهدت صحف الدنيا سنة 1947 بعبقرية فارس الخوري، ورأت فيه شخصية ضخمة لا توزن بها الشخصيات؛ حمل أعباء رئاسة مجلس الأمن فكان من أفضل رؤسائه وأقواهم.

عضو مجلس الشيوخ

وهو واحد من أعضاء "مجلس الشيوخ". لا أعني المجلس الذي يكون حيال مجلس النواب، فليس عندنا في سوريا مجلس شيوخ أو مجلس أعيان كما يدعى في بعض البلدان، بل هو مجلس غير رسمي كان يجتمع فيه بعض شيوخ السن الذين تعتز بهم دمشق، والذين إن فاخرت إنكلترا بتشرشل في السياسة وعمله مثل عمل الشباب وهو في سن الشيخوخة أو ببرنارد شو في الأدب فإن كل واحد من هؤلاء كان تشرشل وشو؛ أكثرهم كان يحضر هذا المجلس وقلة منهم لم تكن تحضره، لا نفخر بأن لبثوا شبابا وهم شيوخ، بل بما جمع الله لهم من العلم والعقل والفضل.

خطب بالإنكليزية فهز العالم

لقد شهدت صحف الدنيا سنة 1947 بعبقرية فارس الخوري، ورأت فيه شخصية ضخمة لا توزن بها الشخصيات؛ حمل أعباء رئاسة مجلس الأمن فكان من أفضل رؤسائه وأقواهم، هذا وليس وراءه جيش يستمد منه هيبته ولا قنبلة ذرية قامت عليها سطوته، ما وراءه إلا دولة صغيرة كبّرتها عبقريته، ضعيفة قوّتها شخصيته، حتى كان صوتها أعلى الأصوات وكلامها أبلغ الكلام.

ولقد عجب الذين لا يعرفونه لما قرؤوا في الأخبار أنه لم يقرأ خطبته من كتاب ولا تلاها من ورقة بل ارتجلها ارتجالا.

لقد آتاه الله هذا الذهن فجعله لغويا أديبا شاعرا حقوقيا مشاركا في كل فروع العلم، وأمدّه بمنطق سديد وعقل نادر المثال، ورزقه ذكاء وبديهة، وهذا الصوت المدوي مع القوة، وهذا الحزم بلا عنف، هذا الرجل لا يستكثر عليه أن يرتجل خطبته بالإنكليزية وأن يكون لهذه الخطبة أثرها في مندوبي أكبر دول الأرض، وهو يخطب مثلها أو أبلغ منها في التركية والفرنسية، أما العربية فهو من أساطينها.

عيبنا أننا لا نعرف تاريخنا ولا نقدر عظماءنا، ونتسابق إلى اقتناء الزجاج من عند غيرنا ونزهد بالألماس الذي تفيض به خزائننا.

تاريخ خصب زاخر بالعظماء

إن عندنا في تاريخنا القريب كثيرا من العظماء، وتاريخنا القريب كتاريخنا البعيد، كالغابة المزدحمة بعمالقة الأشجار، تختلف أنواعها ولكن تتفق في رسوخ أصلها وضخامة جذعها وامتداد فروعها وطول عمرها.

إنه أخصب تاريخ في الدنيا وأحفله بالعظماء، ولكن عيبنا أننا لا نعرف تاريخنا ولا نقدر عظماءنا، ونتسابق إلى اقتناء الزجاج من عند غيرنا ونزهد بالألماس الذي تفيض به خزائننا. فيا أيها الشباب لا يخدعكم زجاج غيركم عن حر جواهركم.

 

  • ملحوظة: راجع كتاب "ذكريات علي الطنطاوي"، الطبعة الخامسة، 2006، طبعة دار المنارة للنشر والتوزيع، الجزء الثاني، من صفحة 203 إلى صفحة 216.