شعار قسم مدونات

لن يكون الغرب وجهة حضارية للشرق بعد اليوم!

أب يحتضن ابنه الذي استشهد جراء القصف الإسرائيلي الوحشي على غزة (غيتي)

لقد بدأت مرحلة جديدة في التاريخ الحديث في العلاقة بين الشرق والغرب، لن يكون الغرب بعد اليوم وجهة حضارية تتطلع لتقليدها نفوس الشباب في المشرق، ولن يكون المثل الذي يحتذى وتشرئب إليه الأعناق والعقول، معظم من صنف في ظاهرة التخلف الحضاري للمسلمين ذكر في الأسباب لما يسمى الهزيمة النفسية والانبهار بالغرب، بعد اليوم ونتيجة أسباب متلاحقة سيحذف هذا السبب من أبواب المفكرين، فقد تجاوزته شعوب زالت عن أبصارها غشاوة امتدت لعقود خلت، تبدت عورات الغرب للشرق وبانت للناظر في أدنى الأرض سَوْءات حجبتها أبنية شاهقة وأضواء باهرة وتكنولوجيا ساحرة وعبارات طنانة ومدن راقية.

لم تكن ازدواجية المعايير فاقعة كما هذه المرة، ولم تكن اللقطة ملونة أكثر مما هي عليها اليوم، لقد سخر الحاضر المتحضر من مواثيق الماضي وعبره ودروسه، وأهدرت كرامة المعاهدات واستبيحت قدسيتها واسود وجهها

سقوط السلطة الأخلاقية

إن لم تكن القيم الأخلاقية في المعركة الإنسانية حاضرة، فإن كل ما خلفها من منجزات لا قيمة له في نفوس الناس وضمائرهم، لقد سقطت الأيديولوجيات الحديثة على المحك، فالمواثيق الدولية وإعلان حقوق الإنسان والاتفاقيات الأممية، كلها صمتت صمت القبور وأخفيت مصنفاتها في أدراج المقرات، ليحل مكانها منطق أخلاق القوة، والغاية تبرر الوسيلة، و(لكل حرب ضريبة) في اصطفاف فج يبيح دماء المدنيين بكل برود ودون أي مبالاة أو مسؤولية

في أيام معدودات خسر الغرب هالته الأخاذة، وإنها لأشد أنواع الهزيمة التي مني بها في معارك الأمم الحضارية، هالة بذلت لأجلها سنون طوال وجهود حثيثة ومخططات محكمة ومبالغ سخية، تبخر كله اليوم كالزبد الجفاء وبقي ما ينفع الناس مما أثبتته حقائق اليوم.

لم تكن ازدواجية المعايير فاقعة كما هذه المرة، ولم تكن اللقطة ملونة أكثر مما هي عليها اليوم، لقد سخر الحاضر المتحضر من مواثيق الماضي وعبره ودروسه، وأهدرت كرامة المعاهدات واستبيحت قدسيتها واسود وجهها، حينما خانت حكومات منحازة قيم عريضة ملأت بها الأرجاء، لم يعد خافيا على أحد أن هذه القيم التي صدرت دروسا متكررة لم تكن إلا مطية امتطتها حكومات تشربت روحا استعلائية تسلطية لابتزاز دول رزحت تحت نير الاستعمار حينا ثم قهر المستبدين حينا بعده ويبدو أن كل الأيديولوجيات على المحك -نفعية وصولية وكاذبة- بدون دين تتأصل منه في هذا السياق يحضرني قول الراحل علي عزت بيجوفيتش: (إذا كانت الثورة تسعى إلى تحقيق العدالة والأخوة والمساواة والحرية، فإنها مستحيلة من غير أن تكون باسم الله، أو بتعبير أكثر دقة، يمكن رفع هذه الشعارات والمثل، وكتابتها على الأعلام، ولكن لا يمكن تحقيقها دون أن تكون قد أعلنت باسم الله. ولم توف الممالك الإلحادية بالوعود التي قطعتها على نفسها، بل وليست قادرة على تحقيقها).

يراهن المجرمون الساخرون بكل ثقة وصفاقة أن لنا ذاكرة السمكة وأننا أمة انفعال لا أفعال، قناعة كونتها أحداث الاعتداء المتكررة والتي كانت نتيجتها انطفاء بعد اشتعال وبرود بعد غليان

ماذا بعد؟!

شكل مشهد الانحياز الأعمى صدمة نفسية عميقة لإنسان القرن الواحد والعشرين، إذ كيف يكون مسموحا في زمن التحضر والرقي، سفك دماء مدنيين أبرياء عزل وتمزيقهم لأشلاء متناثرة بأسلحة ثقيلة، وردم أبنية تحتضن أسرا فيها أطفالا رضع وكبارا عجز على رؤوس ساكنيها، وتشريد من بقي منهم من الجرحى والمصابين من أرضهم وديارهم، في تجاوز صارخ لكل المواثيق الدولية التي تعاهدت على حماية المدنيين وتقديس أرواحهم عبر إعلانات دولية ومواثيق متلاحقة أقرتها دول العالم المتحضر، مستهترة بمبادئ القانون الدولي والرأي العام العالمي، صدمة ستترك أثرها عميقا مخلفة تساؤلا كبيرا بمدى جدارة هذه الدول المتواطئة والداعمة وأحقيتها بتصدير قيم الرقي والإنسانية للعالم.

ذاكرة السمكة

يراهن المجرمون الساخرون بكل ثقة وصفاقة أن لنا ذاكرة السمكة وأننا أمة انفعال لا أفعال، قناعة كونتها أحداث الاعتداء المتكررة والتي كانت نتيجتها انطفاء بعد اشتعال وبرود بعد غليان، وفي الواقع فإن ردة الفعل اللحظية ليست أكثر من مخدر مقبل طويل الأمد، فردود الأفعال العاطفية غالبا ما تكون آنية يتم تفريغ الشحنة الأكبر منها سريعا ثم تزول تدريجيا وتعود حالة الاعتياد والنسيان، ولكي نخرج من هذه الدوامة علينا أن نعمل على تحويل هذه الصدمات النفسية لحالة سوية وواقعية مستدامة، فنجعلها سلوكا عمليا وقناعة فكرية ورغبة نفسية ومنهجا موجها لسوك المسلم في حياته المقبلة.

لقد حان الوقت الذي تعود فيه أمتنا لرشدها وتتموضع في المكان الوسط الذي أناطه الله تعالى بها، تعلي قيما أصيلة نشرتها بين الناس حقا وواقعا وصدقا، دون تمييز أو استعلاء أو مركزية غربية أو شرقية أو تبعية، ودون تمييز بين أبيض وأسود، وشعب وآخر

شهداء على الناس

طبعت العولمة عالمنا بطابع مادي غربي، نحن مصابون بحمى الاستهلاك المفرطة، وتعج رؤوسنا وأحلامنا وحياتنا بالكماليات مما يثقل حملنا ويستنزفنا ويزيد ركوننا للأرض.

تأخذنا صيحات الموضة وتأسر أبنائنا رموز غريبة عنا ومشاهير لا ينتمون لثقافتنا وأخلاقنا، ضعفاء في عالم قوي ومتأخرون في عالم قطع أشواطا في التقدم والعلوم، ولن يتغير شيء من واقعنا إذا بقي السلوك اليومي في حياتنا يتبع السلوك الغربي ويحذو حذوه.

لقد حان الوقت الذي تعود فيه أمتنا لرشدها وتتموضع في المكان الوسط الذي أناطه الله تعالى بها، تعلي قيما أصيلة نشرتها بين الناس حقا وواقعا وصدقا، دون تمييز أو استعلاء أو مركزية غربية أو شرقية أو تبعية، ودون تمييز بين أبيض وأسود، وشعب وآخر، تتساوى دماء الناس وذممهم وقيمتهم الإنسانية، نحتاج لذلك لنفس طويل وروح ثائرة وثابة.

وأختم بخلاصة بديعة للمفكر علي عزت بيجوفيتش يقول فيها: (ولا سبيل لإعادة حيوية الإسلام بأناس "أموات" ولكي يربوا المسلمين عليهم أن يربوا رجالا كاملين، وليحدثوهم عن العزة أكثر من الطاعة، وعن الشجاعة أكثر التواضع، وعن العدالة أكثر من الشفقة. ليخرجوا لنا جيل العزة والمهابة الذي سوف يقف على قدميه بثبات ليمضي في طريقه من غير أن يسأل عن الإذن من أحد. ولنعلم جيدا: إن تقدم الإسلام -مثل أي تقدم آخر- سيتحقق على أيدي الشجعان الثائرين لا على أيدي الوديعين المطيعين) من كتابه عوائق النهضة الإسلاميّة

يقول محمد مهدي الجواهري:

سلام على مثقل بالحديد .. ويشمخ كالقائد الظافر

كأن القيود على معصميه .. مفاتيح مستقبل زاهر

وليس على خاشع خانع .. مقيم على ذله صابر

وليس على غصن ناعم .. رشيق يميل مع الهاصر

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان