- الطريق إلى زينيتسا.. في صحبة مقاتلي العرب في البلقان.
- حوار مع أسير صربي
- أسير صربي: أستطيع مقاتلة من يرغب في الحياة…ولست مستعدا لمواجهة طالب الموت!
عندما فتح باب ذلك المبنى من المباني الأربعة المكونة للموقع الصربي السابق -حيث كان المجاهدون العرب يحتجزون الأسرى الصرب وعددهم عشرة- لم أر سوى واحدا منهم فقط، حيث قيل لي: إن الأخرين رفضوا الحديث معي، وإن هذا الضابط الذي حمل رتبة كابتن "نقيب" هو الوحيد الذي لم يمانع فى مجالستي. كان النقيب الشاب يحمل جميع الصفات الصربية التقليدية من شعر أسود كثيف، وعينين سوداوين، بالإضافة إلى اللحية الكثيفة التي يبدو أنه أطلقها خلال فترة خدمته الطويلة بعيدا عن المدن ومقر القيادة.
"Kako ste؟" هكذا ألقيت السلام على النقيب الشاب باللغة الصربو- كرواتية التي كنت بعد فترة بدأت التفاهم بها ومعناها كيف حالك؟ Dobro، هكذا رد على الأسير باقتضاب، وهو ما يعنى أنه بحالة طيبة. من النظرة الأولى استطعت أن أميز أن الرجل لم يتعرض لسوء المعاملة، كما أدركت أنه لم يقاوم، وإنما استسلم من دون قتال، حيث إن جسده لم يحمل أي إصابات. وكما كنت أتفحص الضابط، كان هو يفعل نفس الشيء معي، وإن كانت نظراته وشت بقلق عميق.
كنت أعرف ان التدخين فى يوغوسلافيا مثله مثل استنشاق الهواء، وقد تأكد لي ذلك -في حالة الأسير- ظهور أثار النيكوتين على أصابع يديه. وبالطبع، فإنني أدركت بأن وضعه كأسير، بالإضافة إلى أن التدخين محظور في حضرة المجاهدين العرب، فإن الشاب كان بحاجة ماسة إلى التبغ.
أخرجت علبة السجائر من جيبي، وأشعلت واحدة، وعلى الفور لاحظت أن عينيه كانتا تلاحقان السيجارة بين أصابعي. مددت يدي بعلبة السجائر له، فكست وجهه ابتسامة عريضة، كانت المقدمة لانهيار الحواجز الواحد تلو الآخر.
استمر الصمت سائدا عدة دقائق حتى فرغ الأسير -الذي عرفت أن أسمه ميشا- من تدخين السيجارة الثالثة بسرعة غريبة. بدأت الحوار بأن قلت له: إنه يستطيع أن يحتفظ بالعلبة كاملة، وألا يخشى أن اقاسمه فيها، ومن أنى سأحضر له المزيد. شكرني الأسير وبدون تردد وضع العلبة فى جيب سترته العسكرية. وبدأ هذا الحوار الذي كشف عن الكثير من الاسرار، وتضمن العديد من المفاجآت التي تنشر للمرة الأولي وفيها:
- هل يمكنني أن أطرح عليك بعض الأسئلة؟
(اكتفى بأن هز رأسه بعلامة الإيجاب، وهو يشعل سيجارة رابعة)
- كيف وقعت في الأسر؟
وما الفرق في ذلك، المهم أنى وقعت بالفعل.
- حالتك العامة تنبئ بأنك لم تقاوم، فلا توجد إصابات.
وهل تعتقد إنني إذا قاومت كانت الظروف ستختلف؟ كان الفارق الوحيد هو أنك كنت ستراني الآن جثة هامدة.
- من أي منطقة من صربيا قدمت؟
من العاصمة بلغراد.
- هل تعلم أنك سيتم إطلاق سراحك -أنت وزملاءك- وتسليمك لسلطات بلادك في غضون أيام مقابل الإفراج عن معتقلين من المدنيين البوسنويين؟
سمعت ذلك..
- ألست سعيدا بانك ستستعيد حريتك مرة أخرى وستعود إلى بلادك وأهلك؟
(يهز كتفيه) ليس بالضبط!
- كيف؟
أنت لا تعرف، ولا أحد يعرف ماذا سيحدث لنا عند عودتنا إلى الوطن!
- معذرة، ولكنني بالفعل لا أفهمك.
أنا وزملائي سنعود لنحاكم عسكريا على التقصير في أداء الواجب والاستسلام والتخلي عن سلاحنا، وهي تهم تصل عقوباتها في القانون العسكري لدينا إلى السجن المؤبد، وليس مجرد تسريح غير مشرف من العسكرية.
- كيف يكون ذلك، وماذا يتوقع القادة في بلغراد إذا ما تمت محاصرتكم؟
هؤلاء القابعون خلف المكاتب الفخمة وداخل الغرف المكيفة في بلغراد لا يدركون مدى قسوة ظروف القتال في هذه الأحراش النائية. وفى سبيل المحافظة على صورتهم لدى العامة يمكن أن يتحولوا إلى قتلة إذا لزم الأمر.
- مهلا، عندما تقول قسوة ظروف القتال في هذه الأحراش، هل تقصد بذلك قسوة المناخ والطبيعة؟ كنت أظنك جنديا محترفا متمرسا على تلك الأجواء!
(ينظر لي بتركيز) بالطبع أنا لا أعنى المناخ ولا طبيعة الأحراش، فتلك أجواء بلادي التي ولدت بها، وإنما أقصد الخصم.
- هل يعنى ذلك أن البوسنويين خصم صعب المراس؟
لن أقلل من مقام البوسنويين كمقاتلين أشداء، ولكنني لا أقصدهم، وإنما اقصد هؤلاء "المجانين" من العرب القابعين خارج هذا المبنى! قالها ميشا وهو يشير بيمينه نحو الباب، إلا أنه سرعان ما أصفر وجهه وأرتبك. وبالطبع، فإنني أدركت أن الشاب من دون أن يقصد نسى لوهلة أنى أنتمى لنفس عرق من رماهم بالجنون. ابتسمت ابتسامة عريضة مهدئا إياه، ومؤكدا له ألا يخافني، ومن إنني لست سوى صحفيا. وبعد أن هدأ روع الشاب، أستأنف الحديث قائلا:
عفوا، فقد أسات التعبير، فعندما قلت هؤلاء المجانين، فإنني كنت أعنى بذلك أسلوبهم غير المتعارف عليه في القتال!
- وماذا يميز أسلوبهم القتالي، بما يكسبهم صفة الجنون؟
حاول أن تفهمني، أنا ليس لدى مشكلة في أن أواجه البوسنويين، ففي النهاية نحن جميعا أصحاب ثقافة واحدة ونشترك في العديد من الأشياء. وبناء على ذلك، فإنني إذا كنت احارب من أجل أرض انتصارا لبني عرقي من ناحية، وتنفيذا لأوامر عسكرية كجندي محترف من ناحية أخرى، فإن البوسنوى يفعل ذلك أيضا، ولكنه يفعل ذلك من على الجانب الآخر من القضية التي لن أناقش مدى عدالتها، حيث إنني مؤمن كجندي أن هذا دور السياسيين والمثقفين. وبناء على تلك القواسم التي تجمعني مع البوسنوى، فإنني لا أجد صعوبة في أن أواجه البسنويين فى ساحة المعركة.
(وفجأة، توقف ميشا عن الاسترسال في الحديث)
- لماذا توقفت؟
* أرجوك، انا أسير لا حول لي ولا قوة، فإذا كان إخوانك العرب في الخارج سيطلعون على هذا الحديث، فأرجو أن تعفيني من مواصلته.
- لن أكذب عليك، فقد كان أحد شروطهم للسماح لي بالحديث معك أن يطلعوا على تفاصيل الحوار، إلا أننى في المقابل أشترط عليهم ألا يتخذوا أي رد فعل على أي شيء سيدور بيني وبينك، وقد أعطوني كلمة شرف، وأنا أعلم أنهم سيحفظون كلمتهم.
(بعد صمت دام دقيقة) كنت أقول إنه نتيجة لما نشترك فيه نحن الصرب مع البوسنويين، فإننا نقاتل لكي نعيش، في حين أن هؤلاء القابعين في الخارج يقاتلون من أجل أن يموتوا، وفى سبيل ذلك يقاتلون بشراسة تصل إلى حد الجنون.
- هلا تفضلت بمزيد من التفسير..
باختصار أنا مستعد لمقاتلة إنسان طبيعي مثلى يحرص على حياته، ولكنني لست على استعداد لكي أقاتل إنسان يسعى للموت!
- وما الفرق، مع الوضع في الاعتبار إن دوافعك في ذلك ليست إنسانية، فلا تقل لي بأنك مشفق على عدوك من المجاهدين العرب الذين يسعون للموت.
* بالطبع لا، ولكنك لا تفهم الموقف. فالمشكلة هي أنى إذا واجهت في ساحة القتال من يحرص على حياته، فإن فرص حياتنا ومماتنا متقاربة، ولكنني إذا واجهت شخصا حريصا على إدراك الموت، فإن فرصي في الحياة تصبح شبه معدومة، إن لم تكن معدومة بالفعل.
- لقد صورت المسألة بشكل بسيط مبهر ومقنع، فلماذا لا تعرض قضيتك بهذا الشكل أمام المحكمة العسكرية التي تنتظرك؟
هناك العديد من الأسباب التي لن تجعل هذا الواقع مقنعا في المحكمة، ولكن أهم تلك الأسباب هو أن القابعين في بلغراد لم يخبروا ما خبرناه هنا في تلك الأحراش.
(قالها ميشا، وقد اكتسى وجهه بعلامات هي مزيج من الإحباط واليأس، وذلك قبل أن يتحول إلى قائلا):
هل لي أن أطرح عليك بدوري بعض الأسئلة؟
- بالطبع..
لقد كان مسلمو البوسنة أخوانا في الوطن حتى وقت قريب، وكان منهم الأصدقاء والجيران، إلا إنني لاحظت أن هؤلاء العرب (معذرة أنتم العرب) مختلفون عن مسلمينا، لا سيما في شراسة القتال ودوافعه، فما الذي يدفع عربا ليس لهم قضية في البوسنة لكي يقاتلوننا بمثل هذه الشراسة دفاعا عن أرض ليست أرضهم؟!
- لست متأكدا يا ميشا أنك ستفهم الإجابة على هذا السؤال..
حاول أن توضح، وسأحاول أن أفهم.
- أنت تنظر إلى المسألة بشكل خاطئ، فهؤلاء العرب لا يقاتلونكم انطلاقا من الدفاع عن أرض ليست أرضهم، كما أنهم لا يقاتلونكم انطلاقا من أي دوافع دنيوية، وإنما هم يقاتلونكم، لرفع الظلم عن مستضعف، وهو ما يعنى في عقيدتنا أنه في حال الموت، فهناك احتمال قوى بأن يحصلوا على الشهادة، وهي أعظم جائزة يحلم بها أي مسلم صحت عقيدته. أيضا، فإن ذلك يفسر لك ما وصفته بالجنون في القتال الشرس وهو ليس كذلك، فهو طبقا للعقيدة الصحيحة عين العقل. أما بالنسبة للاختلاف بين المسلمين العرب ومسلمي البوسنة في هذا المجال، فإنه راجع إلى تغييب الإسلام عن مسلمي البوسنة لما يقرب من مائة عام.
(يهز رأسه) هل ائتمنك على شيء طرأ على ذهني الآن؟
- بالطبع، يمكنك أن تعتمد على في ذلك.
بعد أن سمعت ما لديك، دعني أؤكد لك أنه إذا بقي هؤلاء العرب هنا، فإنه لا أمل لنا في أن نحسم الحرب لصالحنا. إلا أن الأخطر والأهم هو تأثيرهم فى هذا الاتجاه على إخوانهم من مسلمي البوسنة.
شكرت الأسير الصربي على الحوار، كما شكرني هو على علبة السجائر، واستفسر منى عن إمكانية أن أمده بالمزيد، فأكدت عليه بأنني وعدته ومن أنى سأمده الليلة بالمزيد، وقد كان.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.