تعلمت في حياتي أن أنظر للسماء، وأبحث عن المعاني، وأقرأ أحداث التاريخ لأستشرف المستقبل، وعندما يطلق الإنسان خياله، ويفتح قلبه لرؤية الحقائق ينعم الله عليه بمعرفة المعاني الكامنة وراء الأحداث، ويدرك أن الواقع يمكن تغييره عندما يكافح الإنسان، ويستخدم قدراته العقلية ليفكر ويبتكر، وينتج الحلول الجديدة للمشكلات.
كنت أعيش مأساة أهلي بعد عام 1967 بعد أن هاجروا إلي تلك القرية النائية في صعيد مصر، وكنت أحب أن أجلس مع شيوخ العرب أتعلم منهم كيف يمكن أن أواجه تلك الحياة الصعبة التي تحمل الكثير من الآلام والأحزان.
وكان هناك شيخ عربي تجاوز السبعين من عمره يحب الجلوس مع الأطفال، ليروي لهم القصص التي كانت المصدر الوحيد لسعادتنا، وكأنه كان يريد أن يورثنا ما كان يحمله من معرفة، ولاحظ الشيخ اهتمامي بحديثه، وحبي لتلك القصص، فكان يروي لي ذكرياته في رحلاته لفلسطين، وتاريخ أبطالها.
قرأت التاريخ، فأدركت أن تحرير هذا المسجد من الاحتلال الروماني احتل مكانة مهمة في المشروع الحضاري الإسلامي؛ وهذا يفسر لماذا أسند الخليفة الثاني أمير المؤمنين عمر بن الخطاب مهمة تحريره لأمين الأمة أبي عبيدة عامر بن الجراح، وذهب ليتسلم مفاتيح القدس بنفسه
وصف المسجد الأقصى!
وصف لي هذا الشيخ المسجد الأقصى، فأثار خيالي، فتعلق قلبي بهذا المسجد، واحتل مكانته في حياتي، وساهم في تشكيل أهدافي ورؤيتي وكفاحي وتاريخي.
لذلك قرأت التاريخ، فأدركت أن تحرير هذا المسجد من الاحتلال الروماني احتل مكانة مهمة في المشروع الحضاري الإسلامي؛ وهذا يفسر لماذا أسند الخليفة الثاني أمير المؤمنين عمر بن الخطاب مهمة تحريره لأمين الأمة أبي عبيدة عامر بن الجراح، وذهب ليتسلم مفاتيح القدس بنفسه، ووقف مع جنوده الذين حرروه علي جبل يشرف على المسجد.
رسالة الصحابة للأمة!
كان المشهد يحمل الكثير من الرسائل للأجيال القادمة، فهؤلاء الجنود المؤمنون من أصحاب رسول الله وقائدهم الميداني أبو عبيدة، وأميرهم عمر بن الخطاب كانوا جميعا يبكون.. لماذا؟!
إن هذا البكاء يمكن أن يكون تعبيرا عن الفرح بما أنعم الله به عليهم من شرف ومجد وعز وكرامة في الدنيا، فقد حققوا نصرا عظيما بتحرير قبلتهم الأولي، ومسرى رسول الله صلي الله عليه وسلم، والذي يحتل مكانته في قلب كل مسلم.
لكن هل هذه كل معاني الرسالة؛ أم أن هناك حقائق يعرفها أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم، لذلك كانوا يبكون في موقف نصر وفرح وعز ومجد.
هل كان أصحاب رسول الله يعرفون أن المسجد الأقصى هو رمز لقوة الأمة، وأنها عندما تضعف يحتل الأعداء هذا المسجد، وأن هناك الكثير من الدماء سوف تسيل في صراع طويل حول هذا المسجد ودفاعا عنه، وأن الأعداء لن يتمكنوا من السيطرة على هذا المسجد؛ إلا عندما تفقد الأمة الإسلامية وحدتها وقوتها، ويتناحر الحكام، ويتمسكون بالحدود التي يرسمها لهم الأعداء.
قراءة هذه الرسالة تحتاج إلى بصيرة، وقراءة للتاريخ تتجاوز التركيز على الأحداث، فهؤلاء الجنود هم علماء الأمة وسادتها وقادتها الذين تعلموا من رسول الله صلي الله عليه وسلم، ويفهمون معاني آيات القرآن الكريم، ويحفظون أحاديث رسول الله؛ لذلك فإن بكاءهم في هذا الموقف يحمل رسالة لكل مسلم من أهم معانيها: إننا حررنا المسجد الأقصى، وأنت تتحمل الأمانة والمسؤولية في الدفاع عنه وحمايته.
كل من يريد أن يحقق هدفا عظيما يجب أن يعد نفسه لمواجهة الكثير من المخاطر، فمن يريد الحرية يجب أن يدفع ثمنها غاليا، فما بالك بتحرير المسجد الأقصى، الذي يشكل تحريره نهضة جديدة للأمة الإسلامية
وفاء لأصحاب رسول الله
لذلك يجب أن نفهم الرسالة وندرك معانيها ونحمل الأمانة وفاء لأصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم الذين حرروا المسجد الأقصى من الاحتلال الروماني، ونؤهل أنفسنا للحصول علي شرف تحريره.. فهذا المجد يناله المؤمنون بجهادهم وشجاعة قلوبهم وضمائرهم.
والذي يحصل على هذا المجد يجب أن يكون صاحب تاريخ مشرف، فالذي يقاتل من أجل تحرير هذا المسجد يجب أن يكون حرا يدرك أنه عبد لله وحده، وأن يرفض بكل إباء الخضوع للطغيان، ويرفض الباطل مهما بلغت صولته، ويدافع عن الحق مهما كانت التضحيات.
وكل من يريد أن يحقق هدفا عظيما يجب أن يعد نفسه لمواجهة الكثير من المخاطر، فمن يريد الحرية يجب أن يدفع ثمنها غاليا، فما بالك بتحرير المسجد الأقصى، الذي يشكل تحريره نهضة جديدة للأمة الإسلامية، ودورة حضارية تقود فيها البشرية للحق والعدل والشورى والحرية من كل أشكال الاستعمار والطغيان.
بعد أن خاضت الخيل في الدماء
يوضح لنا التاريخ أنه عندما تمزقت الأمة، وتناحر الحكام المستبدون تمكن الصليبيون من السيطرة على المسجد الأقصى، وقتلوا فيه 70 ألفا من العلماء والطلاب الذين جاءوا من كل البلاد ليتعلموا العلم، وينشروا نور العرفة في بلادهم، وخاضت خيول الصليبيين في دماء المسلمين داخل المسجد، ومضت 80 عاما والمسجد تحت سيطرة الصليبيين؛ حتي تمكن صلاح الدين الأيوبي من توحيد الأمة، ليواجه الصليبيين، ويهزمهم، وينال شرف تحرير المسجد الأقصى.
وتلك التجربة توضح أنه مهما طال الزمن، ومهما بلغت قوة العدو؛ فإن المؤمنين يستطيعون أن يحرروه عندما يستكملون شروط التحرير، ومن أهمها الإيمان بأن القوة بيد الله، وأن النصر بيده، وهو ينصر المؤمنين عندما يعدون ما استطاعوا من قوة، وعندما يمتلكون قوة الإيمان.
عام 1988 التقيت بكبير مهندسي المسجد الأقصى رائف نجم في مؤتمر القدس في القاهرة، وكنت وقتها أقوم بتغطية المؤتمر لجريدة خليجية، وشرح لي الرجل المشروعات الإسرائيلية للحفر تحت المسجد الأقصى، وأعطاني الكثير من الوثائق، فقمت بحملة صحفية مهمة أفتخر بها في حياتي تهدف لتوعية الأمة بخطورة هذه الحفريات
الحفريات تحت المسجد الأقصى!
مضي الزمن وتفرقت الأمة شيعا، واستبد بها حكام ضعفاء أمام الأعداء، ويستخدمون قوتهم الغاشمة للبطش بشعوبهم وقهرها، فاستغل الاستعمار الفرصة ليحقق مشروعه في فرض الاحتلال الصهيوني على فلسطين.
واستطاع الصهاينة أن يهزموا الحكام العرب المستبدين الضعفاء الخاضعين للاستعمار، وأن يسيطروا على المسجد الأقصى، وشكل ذلك تعذيبا لضمير كل مسلم، فكيف يمكن أن يتمتع بالحياة مؤمن، والمسجد الأقصى أسير.
في عام 1988 التقيت بكبير مهندسي المسجد الأقصى رائف نجم في مؤتمر القدس في القاهرة، وكنت وقتها أقوم بتغطية المؤتمر لجريدة خليجية، وشرح لي الرجل المشروعات الإسرائيلية للحفر تحت المسجد الأقصى، وأعطاني الكثير من الوثائق، فقمت بحملة صحفية مهمة أفتخر بها في حياتي تهدف لتوعية الأمة بخطورة هذه الحفريات التي يمكن أن تقوض أساسات المسجد، وطالبت بأن يتحرك حكام العرب لحماية المسجد، ولكن لا حياة لمن تنادي، فالحكام مشغولون بقهر شعوبهم، وتنفيذ أوامر أمريكا التي يعتقدون أنها تملك تعيينهم وحماية حياتهم وكراسيهم.
حتى جاء طوفان الأقصى!
مضت سنوات العمر وجاء المشيب بعد أن انكسرت تلك الأحلام الجميلة التي شكلها الربيع العربي، وغادرت الوطن إلي المنفى، لكن مع كل ما عانيته من اضطهاد ظل القلب يحمل الأمل في الله وحده، فهو القادر على تغيير هذا الواقع المر.
وجاء يوم 7 أكتوبر، تشرين الأول ليحمل بشائر انتصارات كثيرة قادمة، وليشكل بداية نهضة الأمة، ولأنني أبحث دائما عن المعاني، فإنني تمكنت من رؤية حقيقة مهمة هي أن المقاومة عبرت عن أشواق الأمة الإسلامية كلها لتحرير المسجد الأقصى.. لذلك اختارت المقاومة العنوان "طوفان الأقصى" لتحرك أشواق المؤمنين، وتثير خيالهم، وتحرر عقولهم من التركيز على الواقع، فالمستقبل يبنيه الحالمون الذين يجاهدون لتحقيق أهداف عظيمة.
ومن المؤكد أن تحرير المسجد الأقصى أعظم هدف يمكن أن تحققه الأمة الإسلامية خلال السنوات القادمة، والمقاومة الفلسطينية قدمت النموذج الذي يثير الخيال ويشحذ البصيرة، ويمكننا من رؤية الضوء الذي تسلل فجأة من طبقات الظلام والظلم المتراكمة على واقع أمتنا البائس.
هل يمكن أن تحرر الأمة المسجد الأقصى؟! اشحذ بصيرتك، وأطلق لخيالك العنان، واملأ قلبك إيمانا بالله، واستخدم عقلك في إنتاج أفكار جديدة لزيادة قوة الأمة، وسوف تكتشف الإجابة على السؤال، لكن استعد حتى لا تفقد مجد المشاركة في التحرير، وحرر نفسك من الخوف من كل الطواغيت لتكون أهلا للمشاركة.
أما أنا فإنني أعيش بالأمل في المساهمة في تحقيق النصر، وبناء مستقبل الأمة على أسس العدل والحرية وتحرير فلسطين، وشكل هذا الأمل حياتي.. أما المقاومة الفلسطينية فقد قدمت الدليل علي أن المؤمنين يستطيعون تحرير المسجد الأقصى، وهم يسيرون في الطريق لتحريره، فمنهم من يفوز بالشهادة، ومنهم من يصل ويحقق النصر وينال المجد والشرف، ويقف على الجبل الذي يشرف على المسجد الأقصى يبكي؛ كما فعل أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم. وما أكرم تلك العيون التي ستبكي في ذلك اليوم الذي سيأتي حتما، ونرجو أن يكون قريبا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.