اتضحت صفات الرعيل الأول من المؤمنين بالرسالة النبوية (الصحابة الكرام رضوان الله عليهم)، من بداية الدعوة الإسلامية في مكة، وقد كان لهم السبق في الاقتداء بالقيم الإيمانية، وفضائل الاخلاق التي جاء بها الإسلام، هذا فضلا عن كونهم المثال الأعلى بالتمسك بشعائر الإسلام، وأركانه العقائدية والتعبدية وأحكام المعاملات فيه.
كأن الرسول المربي (صلى الله عليه وسلم)، قد حدد لكل فرد من هؤلاء عمله بدقة، وتنظيم حكيم، فالكل يعرف دوره المنوط به، والكل يدرك طبيعة الدعوة، والمرحلة التي تمر بها، والكل ملتزم جانب الحيطة
كانت الفترة الأولى من عمر الدعوة تعتمد على السرية، والفردية، وكان التخطيط النبوي دقيقا، ومنظما، وسياسية محكما، فما كان اختيار رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لدار الأرقم لمجرد اجتماع المسلمين فيها لسماع نصائح، ومواعظ، وإرشادات؛ وإنما كانت مركزا للقيادة، ومدرسة للتعليم، والتربية، والإعداد، والتأهيل للدعوة، والقيادة، بالتربية الفردية العميقة الهادئة، وتعهد بعض العناصر، والتركيز عليها تركيزا خاصا؛ لتأهيلها لأعباء الدعوة، والقيادة، فكأن الرسول المربي (صلى الله عليه وسلم)، قد حدد لكل فرد من هؤلاء عمله بدقة، وتنظيم حكيم، فالكل يعرف دوره المنوط به، والكل يدرك طبيعة الدعوة، والمرحلة التي تمر بها، والكل ملتزم جانب الحيطة، والحذر، والسرية والانضباط التام.
كان بناء الجماعة المؤمنة في الفترة المكية يتم بكل هدوء وتدرج وسرية، وكان شعار هذه المرحلة هو توجيه المولى عز وجل المتمثل في قوله تعالى: ﴿واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا﴾ [الكهف: 28].
إن الآية الكريمة تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصبر على تقصير، وأخطاء المستجيبين لدعوته، وأن يصبر على كثرة تساؤلاتهم، خاصة إن كانت خطأ، وأن يصبر على ترددهم في قبول التوجيهات، وأن يجتهد في تصبيرهم على فتنة أعداء الدعوة، وأن يوضح لهم طبيعة طريق الدعوة، وأنها شاقة، وألا يغرر به مغرر ليبعده عنهم، وألا يسمع فيهم منتقصا، وألا يطيع فيهم متكبرا أغفل الله قلبه عن حقيقة الأمور، وجوهرها.
نجاة الإنسان لا تكون إلا إذا أكمل الإنسان نفسه بالإيمان، والعمل الصالح، وأكمل غيره بالنصح، والإرشاد، فيكون قد جمع بين حق الله، وحق العباد، والتواصي بالصبر ضرورة
وإن الآية الكريمة السابقة من سورة الكهف تصف لنا بعض صفات الجماعة المسلمة الأولى، والتي من أهمها:
الصبر في قوله تعالى: ﴿واصبر نفسك﴾
إن كلمة الصبر تتردد في القرآن الكريم، وفي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ويوصي الناس بها بعضهم بعضا، وتبلغ أهميتها أن تصير صفة من أربع للفئة الناجية من الخسران، قال تعالى: ﴿والعصر* إن الإنسان لفي خسر* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر﴾ (العصر: 1 – 3)؛ فحكم المولى عز وجل على جميع الناس بالخسران إلا من أتى بهذه الأمور الأربعة:
- الإيمان بالله.
- العمل الصالح.
- التواصي بالحق.
- التواصي بالصبر.
لأن نجاة الإنسان لا تكون إلا إذا أكمل الإنسان نفسه بالإيمان، والعمل الصالح، وأكمل غيره بالنصح، والإرشاد، فيكون قد جمع بين حق الله، وحق العباد، والتواصي بالصبر ضرورة؛ لأن القيام على الإيمان، والعمل الصالح، وحراسة الحق، والعدل من أعسر ما يواجه الفرد، والجماعة، ولا بد من الصبر على جهاد النفس، وجهاد الغير، والصبر على الأذى والمشقة، والصبر على تبجح الباطل، والصبر على طول الطريق، وبطء المراحل، وانطماس المعالم، وبعد النهاية.
كثرة الدعاء والإلحاح على الله
هذا يظهر في قوله تعالى: فالدعاء باب ﴿يدعون ربهم بالغداة والعشي﴾، فإذا فتح للعبد؛ تتابعت عليه الخيرات، وانهالت عليه البركات، فلا بد من تربية الأفراد الذين يعدون لحمل الرسالة، وأداء الأمانة، على حسن الصلة بالله، وكثرة الدعاء؛ لأن ذلك من أعظم، وأقوى عوامل النصر.
الإخلاص لله
يظهر في قوله تعالى: فلا بد عند إعداد الأفراد إعدادا ربانيا أن يتربى على أنهم ﴿يريدون وجهه﴾، وعلى أن تكون أقواله، وأعماله، وجهاده كله، لوجه الله، وابتغاء مرضاته، وحسن مثوبته من غير نظر إلى مغنم، أو جاه، أو لقب، أو تقدم، أو تأخر، وحتى يصبح جنديا من أجل العقيدة والمنهج الرباني، ولسان حاله قوله تعالى: ﴿قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين* لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين﴾ [الأنعام: 162 163] .
وإن الإخلاص ركن من أركان قبول العمل، ومعلوم: أن العمل عند الله لا يقبل إلا بالإخلاص، وتصحيح النية، وبموافقة السنة، والشرع.
لا شك أن اللبنات التي تعد لحمل الدعوة، وإقامة الدولة، وصناعة الحضارة، تحتاج إلى الثبات الذي يعين على تحقيق الأهداف السامية، والغايات الجميلة، والقيم الرفيعة.
الثبات
يظهر في قوله تعالى: ﴿ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا﴾ [الكهف: 28].
وهذا الثبات المذكور فرع عن ثبات أعم ينبغي أن يتسم به الداعية الرباني، قال تعالى: ﴿من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا﴾ [الأحزاب: 23].
ففي الآيات الكريمة ثلاث صفات: إيمان، ورجولة، وصدق. وهذه العناصر مهمة للثبات على المنهج الحق؛ لأن الإيمان يبعث على التمسك بالقيم الرفيعة، والتشبث بها، ويبعث على التضحية بالنفس؛ ليبقى المبدأ الرفيع. والرجولة محركة للنفس نحو هذا الهدف، غير مهتمة بالصغائر، والصغار، وإنما دائما دافعة نحو الهدف الأسمى، والمبدأ الرفيع. والصدق يحول دون التحول، أو التغيير، أو التبديل، ومن ثم يورث هذا كله الثبات الذي لا يتلون معه الإنسان، وإن رأى شعاع السيف على رقبته، أو رأى حبل المشنقة ينتظره، أو رأى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها.
ولا شك: أن اللبنات التي تعد لحمل الدعوة، وإقامة الدولة، وصناعة الحضارة، تحتاج إلى الثبات الذي يعين على تحقيق الأهداف السامية، والغايات الجميلة، والقيم الرفيعة.
هذه من أهم الصفات التي اتصفت بها الجماعة المؤمنة الأولى، والتي يجب على من جاء بعدها من أجيال المؤمنين أن يتصفوا بها ويسعوا للتمسك بما كان عليه الأولون السابقون في مضمار الدعوة الإسلامية، والامتثال لأوامر الله تعالى وتوصيات رسوله الكريم (صلى الله عليه وسلم)، وخصوصا تلك التي تدور حول المحاور الأساسية الأربعة وهي: الإيمان بالله تعالى، والعمل الصالح الذي يتحرى صاحبه فيه الإخلاص لوجه الله تعالى، والتواصي والتعاون على الحق ونصرته، والصبر على بلاء الدنيا ومشاق الدعوة والنصرة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.