في العادة، في مثل هذا الوقت من كل عام، يغرق جزء من العالم في احتفالات رأس السنة، معظمه بحكم العادة والعرف وهوى في النفس يميل بالإنسان نحو "الاحتفال المنفلت"، وجزء منه بخلفية تستحضر بُعدا دينيا عقديا لدى أصحابه. وفي العادة، كان امتداد هذا المشهد نحو عالمنا المسلم يثير ما هو معروف لدى الجميع؛ من نقاش شرعية الاحتفال وجواز التبريك وجدل التبعية للغالب.
العالم يعيش شرخا عميقا يمس كينونة الإنسان وماهيته، وإن الإنسانية أمام حرج بالغ يضع آدمية بني البشر على المحك. إذ كيف يتأتى إقامة الأفراح والانخراط في الحفلات وجزء من البشرية على مرمى البصر يتعرض لأبشع صور القتل والإبادة منذ ثلاثة أشهر؟
وإذا كان المشهد أعلاه، مع ما يجرّه من تباين واضح وخلاف مستحكم، يمكن أن يوضع تحت دائرة "الخلاف الطبيعي" الساري بين البشر، بحكم التكوين والثقافة والبيئة والتنشئة، والذي يستحيل أن يرتفع مادام البشر فوق الأرض متدافعون؛ فمتعايشون تارة ومتصارعون أخرى. إذا كان الأمر كذلك، فإن نهاية سنة 2023 واستقبال 2024، تضع الإنسانية أمام سؤال الحقيقة وامتحانها.
إن العالم يعيش شرخا عميقا يمس كينونة الإنسان وماهيته، وإن الإنسانية أمام حرج بالغ يضع آدمية بني البشر على المحك. إذ كيف يتأتى إقامة الأفراح والانخراط في الحفلات وجزء من البشرية على مرمى البصر يتعرض لأبشع صور القتل والإبادة منذ ثلاثة أشهر؟ كيف يمكن أن يكون الإنسان متصالحا مع ذاته، وهو يدّعي أنه يستقبل سنة يرجو فيها من السلام والنجاح والسكينة ما يرجو، وهو يرى بأم عينيه عالما يرقص على إيقاع صرخات آلاف الأطفال القتلى الممزقة أجسادهم على الطرقات والمستشفيات، ناهيك عن قرنائهم المفزوعين من أزيز الطائرات ودويّ الانفجارات وأصوات المدافع وطلقات البنادق، وفوق ذلك تأوهاتهم جوعا وعطشا من فقد الماء والطعام واللبن والخبز؟!
نعم، لم تمنع الآلام الإنسان يوما من الفرح. ونعم، نحن في عالم شاسع لا يمكن معه أن يوقف بعضُ البشر حياتهم لأن بشرا آخرين يألمون ويموتون، وقد كان هذا ديدن العالم دائما وما يزال. ولكن، ممّا خصّ الله به مظلومية غزة ومعاناة أهلها، أنها كانت من الوضوح أولا ومن الشيوع ثانيا ومن التعاطف ثالثا، ما جعلها "ترمومترا" يقيس به المرء بشريته، وترى الإنسانية في مؤشراته مدى تحقّقها بمعاني العدالة والخير والأخلاق.
ونحن نودّع سنة ونستقبل أخرى، وبغض النظر عن طبيعة سلوك الأفراد والدول تجاه هذا الانتقال/الاستمرار الزمني، نعيش اليوم مرحلة حسّاسة بحق، يمكنها أن تشكّل لحظة فارقة في بناء مستقبل الإنسانية، إن تمكّن العقلاء والأشراف والأحرار من حسن التعاطي معها والبناء عليها.
ينبغي الانتباه إلى أن المؤسسات الدولية القائمة اليوم (الأمم المتحدة ومجلس الأمن أساسا)، التي يفترض أنها المشرفة على تفعيل تلكم الترسانة، قد فقدت كل صلاحية لإدارة العالم وانكشف زيف توجهاتها وانحيازاتها
في هذا الصدد، يمكن الالتفات إلى ما يلي:
- إذا كانت العلوم الإنسانية تقوم على "مبدأ التّكرار" (على خلاف العلوم الصلبة التي تقوم على "مبدأ التراكم")، أي أن الإشكالات الاجتماعية والسياسية التي عانى منها الإنسان قبل ألف وألفي سنة هي نفسها نعانيها وستعانيها الأجيال اللاحقة (مثل أسئلة الحرية والعدالة والدين والعيش المشترك والعلاقة بين الأمم..)، فإن البشرية مطالبة اليوم بالحسم مع طبيعة اختياراتها أولا (الحرية أم العبودية، العدل أم الظلم..)، ومطالبة بالجواب عن سؤال الكيف الناجع ثانيا (الطريق الفعّال إلى ذلكم المكان الذي تطمح إليه).
- إذا كانت الترسانة الحقوقية الدولية قد تلقّت ضربة قوية أمام عجزها الواضح عن ردع دويلة منفلتة قائمة على غصب أرض الغير وتقتيل أصحابها، فإن النظر الموضوعي للأشياء يقول بأن تلك الترسانة (بعيدا عن محاولة أصحابها تعميم بعض "الحقوق" التي تصادم معتقدات وثقافات الكثير من الأمم تحت مسمى "الكونية") قد بلغت حدا من "الكمال النظري"، ما من شأنه أن يشكل أرضية صلبة يمكن البناء عليها لتشمل هذه الحقوق والحريات كل بني البشر بغض النظر عن ألوانهم وأعراقهم وأديانهم، ما داموا بشرا كرّمهم خالقهم سبحانه.
وفي هذا الصدد ينبغي الانتباه إلى أن المؤسسات الدولية القائمة اليوم (الأمم المتحدة ومجلس الأمن أساسا)، التي يفترض أنها المشرفة على تفعيل تلكم الترسانة، قد فقدت كل صلاحية لإدارة العالم وانكشف زيف توجهاتها وانحيازاتها، مما يطرح إشكالية التحرر من قبضتها من جهتي الكيف والبديل.
ستظل صورة الإنسانية مشوّهة أمام مرآة الحقيقة، تُنكر ذاتها وهي تنظر إلى نفسها في أحداث عظيمة ووقائع مزلزلة فتتكشّف البشاعة وتنجلي الكِذْبة وقد طار زيفها على واقع مرّ، يعلو فيه دويّ القنابل المدمّرة على أصوات الطفولة البريئة.
- إذا كان المجتمع الغربي قد أظهر تضامنا واسعا مع القضية الفلسطينية، وآلم شعوبه ما يحدث لبشر -تسري فيهم الروح الآدمية كما كل الناس- من هولوكوست جديد، رأوا بعض تفاصيله حيّة بالصوت والصورة، وهو ما أخرج الشارع الغربي وبعض نخبه إلى التظاهر والاحتجاج والإبداع في الضغط بشكل غير مسبوق، دفاعا عن قضيتنا الأولى نحن العرب والمسلمون. فإن هذا الصَّمَم الذي يمضي فيه ساستهم وهذا الإصرار من قبل دولهم على دعم الكيان الصهيوني الغاصب بكل وسائل الدعم، ضدا على إرادة معظم مواطنيهم، يكشف أن "الديمقراطية الغربية" فيها من التشوهات والأعطاب الشيء الكثير مما كنا نظن أنه يخصنا وحدنا فقط. وإن هذا الواقع الذي يجعل "السيادة الشعبية" وَهْما كبيرا يتسيّد طبيعة العلاقة بين الحاكمين والمحكومين هناك (كما هنا، مع فرق واضح في مساحة حرية التعبير)، يدعو عقلاءهم ونخبهم ومجتمعهم المدني والسياسي إلى إعادة النظر في البناء الذي تتأسس عليه الديمقراطية، بغية تصويب مضمون ثنائية السلطة والمجتمع.
- إذا كان العالم، قُوى عظمى ومؤسسات أممية ونخبا فكرية وشعوبا حيّة، يُكرّر ويعيد بأن البشرية وصلت حدّا من النضج ما يجعلها تسعى إلى أمن وسلم دوليين، ترفل فيه الشعوب والأمم في حرية وسلام ونماء وعمران، فإن ذلك يبقى حبرا باهتا على أوراقٍ بالية وأكذوبة كبرى مفضوحة مكشوفة، مالم يتم البدار إلى وقف الظلم الواقع على بني الإنسان في الكثير من بقاع الأرض، وإنهاء شلال الدماء المنسكبة في غزة وفلسطين وغيرها، وصدّ كل معتد أثيم طاغ متجبر لئيم، والتأسيس، مقابل ذلك، لميثاق دولي؛ يمنع الاحتلال، ويردع الظلم، ويتيح لكل الشعوب -على تنوع هوياتها ومذاهبها- العيش الآمن وفق ما يرتضيه أبناؤها.
عدا ذلك، ستظل صورة الإنسانية مشوّهة أمام مرآة الحقيقة، تُنكر ذاتها وهي تنظر إلى نفسها في أحداث عظيمة ووقائع مزلزلة فتتكشّف البشاعة وتنجلي الكِذْبة وقد طار زيفها على واقع مرّ، يعلو فيه دويّ القنابل المدمّرة على أصوات الطفولة البريئة.
عدا ذلك، ستظل الصور الحيّة القادمة من فلسطين جدّ معبرة عن حقيقة عالمنا وبشاعته، وجدّ أمينة في كشف ازدواجية مقيتة تدوس فيها "الوحشية" كل ما هو جميل في بني البشر.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.