شعار قسم مدونات

الموسيقى.. تاريخ الشعوب المنغوم

بعد إنشغاله بالغناء أدرك بشطارزي محدودية الموسيقى فدخل عالم التأليف المسرحي للجمهور الجزائري المصدر: ميدجيرني
اتخذ الإنسان الغناء والفن عموما ليعبر به عما يجول بداخله وينقل به أفكاره والمعاني التي تختلجه (الجزيرة/ ميدجيرني)

تشكل الثقافة ركيزة لكل حضارة ومعلما لها، ويشكل الفن وجها كاشفا لهذه الحضارة ومعيارا صادقا لعمقها وغناء ثقافتها، وتشكل الموسيقى والغناء التعبير الأبرز عن الرقي الحضاري والغنى الثقافي لأي أمة أو وطن. وقد اعتبر المؤرخون ازدهار صنعة الموسيقى والغناء في الأمم معيارا لذروة التحضر، واعتبره ابن خلدون قمة الدورة الحضارية للدول.

حمّل الإنسان الغناء والموسيقى تساؤلاته الوجودية وقضاياه الفكرية الكبرى، وحاجاته الاجتماعية ونَزعاته السياسة والوطنية أيضا. فكان بذلك الغناء تعبيرا جماليا حاملا للفكرة، ومتأثرا بمحتواها موصلا أمينا لمعناها

الموسيقى هي تاريخ الشعوب الملحن المنغوم، وهي أثرهم في الحياة، وفيها تعبيرهم عن كل تفاصيلها، وفيها تنطوي كل تجارب الشعوب وأحوالهم، ويظهر في ألحانها فرحهم وحزنهم، ووجدهم وفقدهم، لأنها الفن الوحيد الذي يمكنه مرافقة الناس في كل مكان وزمان وعلى أي حال. فهم يغنون برفقة ربابة أو مزهر أو ناي وطبل فقط، وأحيانا لا تكلفهم إلا مد أصواتهم والترنم بحناجرهم دون مرافقة أي آلة موسيقية، والموسيقى وحدها من تقدر على عكس كل مشاعر الناس وأحوالهم ومعاناتهم، وتجسيد أفكارهم وهمومهم، وترجمتها جمالا مسموعا إلى غيرهم، فلا حدود لتعبيرات الموسيقى اللحنية ولا نهاية لتراكيبها النغمية ولا حصر لحسنها، ولأجل ذلك يقول الشاعر الكبير وته: "كل الفنون تتمنى لو كانت موسيقى".

اتخذ الإنسان الغناء والفن عموما؛ ليعبر به عما يجول بداخله وينقل به أفكاره والمعاني التي تختلجه. وجعله ابتداءً وسيلة للتعبد في تواصله مع معبوده ومناجاته له، ولذلك أقدم الألحان المكتشفة هي ترنيمات وابتهالات دينية، وأغلب موسيقى الشعوب خرجت من معابدها واستعملتها للتعبير عن الفرح والحزن، والفقد والوجد، وعند السعادة بالحياة، وكذلك عند مواجهة الموت. وكانت وسيلتها للتعارف والتواصل في السلم، وللتهييج وحشد الهمم في الحرب، ومطيته للترفيه والتسلية وللتربية والوعظ أيضا.

حمّل الإنسان الغناء والموسيقى تساؤلاته الوجودية وقضاياه الفكرية الكبرى، وحاجاته الاجتماعية ونَزعاته السياسة والوطنية أيضا. فكان بذلك الغناء تعبيرا جماليا حاملا للفكرة، ومتأثرا بمحتواها موصلا أمينا لمعناها، وإننا نستطيع من خلال استقراء تراث الشعوب الغنائي المحفوظ في أهازيجهم، وصنوف ألوانهم الموسيقية الشعبية، وتطورها وتنوع أغراض أشعارها المغناة فيها؛ التعرف على حقبهم التاريخية ورصد أحوالها وتقلباتها وظروفها الاجتماعية ومناخها السياسي. لأن الفنون عموما والموسيقي والغناء تحديدا كانت بمثابة اللوحة التي تكتب فيها الشعوب آثارها وتحفظها للتاريخ، حتى تستطيع أن تقرأها الأجيال المقبلة، فالتراث الفني والموسيقي مكون لا تكتمل من دونه معرفة تاريخ الشعوب وحضاراتها، وقد تُدرس أحيانا بعض الحضارات وتختفي معالمها ولا يتعرف عليها إلا من خلال أثر فني لأهلها مرسوم بصحيفة أو منقوش بجدار أو مجسم منحوت، أو قطعة موسيقية محفوظة، أو ترنيمة غنائية متوارثة شفهيا في أهازيج الأفراح أو غناء الفلاحين، أو تعويذة الأمهات وهدهدتاهن، أو نشيد الحرب والحماسة.

نتعرف في التراث الموسيقي الغنائي أيضا، إلى هويات الشعوب وسكان الأرض الأصليين، ونعرف جغرافيا الأرض، وتضاريسها وطقسها، من خلال نظم أشعارهم ونغم ألحانهم الموسيقية

في التراث الموسيقي للأمم، انعكس أيضا مدى تحضر الشعوب وتمدنهم، وظهر في تطور صناعة الموسيقى وعلمها وثرائها تطور الشعوب وصناعتهم. كما ظهر في بدائيتها بدائية الشعوب المنتجة لها. وإن الناظر في التراث الفني الموسيقي الأندلسي مثلا؛ يسهل عليه التعرف إلى نوع الحضارة والمدنية في الأندلس آنذاك، وتقدمها المدني والثقافي على البداوة الصحراوية، والتي تظهر بساطتها في بساطة نتاجها الموسيقي وبدائيته.

الثراء الثقافي الأندلسي يظهر جليا في كثرة الآلات الموسيقية المستعملة، ووفرة الألحان وترتيبها حسب الظروف والأوقات، وتنوع الأغراض الشعرية المغناة، كل هذا يخبر أن هذه الصناعة الموسيقية وجدت في مجتمع منتج في كل الصناعات الأخر، مترٍف كما يسميه ابن خلدون، توفرت لديه الضروريات والحاجيات حتى أبدع في الكماليات، وأبرز تجليها الموسيقى والغناء حسب النظرة الخلدونية.

نتعرف في التراث الموسيقي الغنائي أيضا، إلى هويات الشعوب وسكان الأرض الأصليين، ونعرف جغرافيا الأرض، وتضاريسها وطقسها، من خلال نظم أشعارهم ونغم ألحانهم الموسيقية، ونكتشف كيف تداخلت الثقافات، أو كيف حدث التثقف بين حضارتين من خلال تمازج الألحان المختلفة مصدرا، المتنوعة أجناسا ولحونا.

تقاس حضارات الشعوب والأمم من خلال تطورها المدني ونتاجها الصناعي والثقافي وما خلفته من عمران. ولكن أيضا تقاس بسلم القيم التي أعلتها والمبادئ التي سارت عليها وحكمتها

ففي تراث موسيقى الشعوب نكتشف اللغة المستعملة وتطورها، ونوع الأنشطة التجارية الغالبة، ونتعرف إلى الأعراق والقبائل، وطرائق العيش الاجتماعي والأعراف السائدة من خلال لغة الحب والغزل وطقوس الزواج وآداب العائلة. ونكتشف طبائع المجتمع ونظم الحكم المهيمنة، ووقائع الحرب وظروفها ومباهج السلم والأمن.

تقاس حضارات الشعوب والأمم من خلال تطورها المدني ونتاجها الصناعي والثقافي وما خلفته من عمران. ولكن أيضا تقاس بسلم القيم التي أعلتها والمبادئ التي سارت عليها وحكمتها، ويعتبر الفن والموسيقى، وخصوصا الأغراض الشعرية التي احتفى بها الغناء وترجمتها اللحون وتغنت بها المجتمعات، أو التي راجت في الألوان الشعبية، أبرز تجل لهذه القيم، وأوضح مظهر للرقي الأخلاقي للمجتمعات أو انحطاطها، ويمكن معرفة القيم السائدة في المجتمعات من خلال الغناء السائد فيها، لحنا ومضمونا، ومعنى ومغنى.

الموسيقي تاريخ الشعوب المنغوم. لأن الانسان اتخذ الموسيقى والغناء وسيلة للتربية والتوعية والترويح وللعبادة أيضا. واستعملها للتعبير عن سعادته فرحا وللتعبير عن حزنه شجنا، حتى عكست الموسيقى ألام الشعوب وآمالها، ونسجت بالنغم أحزانها وأفراحها، وأرخت بالألحان لحقبها، في ازدهارها وانحطاطها، وصورت بالأنغام نكباتها وانتصاراتها. وكان بذلك الفن عموما والموسيقى خصوصا ليس فقط وسيلة للتسلية والترفيه؛ بل مرآة لثقافة وقيم الشعوب وسفيرا للحضارة، ورسالة للقيم وصانعا للثقافة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان